غاندي وبن باديس والثوار العرب

غاندي وبن باديس والثوار العرب

28 يناير 2016
لابد أن نحرر عقولنا أولاً من الأفكار القاتلة(مواقع التواصل)
+ الخط -
انتصار خيار الثورة يحتاج إلى تراكم من الإنجازات في جنبات المجتمع سواء في المجالات الثقافية أو الاجتماعية أوالدينية؛ فإسقاط الأنظمة السياسية الغاشمة في بلدان الربيع العربي والثورة عليها جزء هام وضروري، ويمثل بداية الانطلاق نحو التحرر والنهضة وتحقيق الاستقلال الوطني.


ولكن من الخطأ أن نعتقد أن إسقاط نظام مستبد وغاشم هو مرادف لتحقيق مطالب الثورة والثوار، من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية؛ فحركة تغيير الأمم والحضارات والمجتمعات لا بد أن تمر من بوابة إعادة تهذيب ومراجعة منظمومة الأفكار القاتلة الحاكمة التي تسكن في عقول القادة والمجتمع والقوى السياسية التاريخية، والتي تدفع في اتجاه الخنوع والسلبية والاستسلام وعدم الفاعلية؛ فكل فعل بشري يخرج لحيّز الوجود تقف خلفه صورة ذهنية مختزنة في العقل ومحفورة فيه وهي التي تفرض على عالم الجوارح حركتها وفعلها، فمثلاً الذي كوّن صورة ذهنية في عقله أن الشعب سلبي ومتخاذل وضد الثورة والتغيير ستجد مشاركته في الحراك الثوري تكاد تكون معدومة، لأن أفكاره تقول له لا فائدة، وإذا شارك كانت مشاركته باهتة ولا ترى في عينيه بريق الأمل، ومن كوّن في ذهنه فكرة أن التغيّر مستحيل وغير ممكن وأن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ سيتسم كلامه بالسلبية، وأفعاله بالبرود تجاه أوجاع الفقراء والمهمشين.

تجربة غاندي
عندما فكر غاندي في تحرير الهند من التاج البريطاني كان عدد سكان الهند في تلك الفترة سنة 1930 قرابة 300 مليون نسمة وعدد الجنود الانجليز 30 ألف جندي. سأل غاندي الهنود من يحتل من؟! وقال لهم "نحن الذين سمحنا لهم أن يحتلوا أرضنا وثرواتنا وليس العكس، وانطلق بشعبه عبر مسيرات الملح والعصيان المدني وحملات المُقاطعة حتى حرر الهند من دون أن يقتل أحداً، السر يكمن في أنه غيّر عالم الأفكار عند الهنود من أنهم ركام لا يساوي شيئاً وأن الانجليز هم القوة والسيادة إلى النقيض وهو أن القوة والقدرة وإمكانية الفعل بيد الهنود وليست للإنجليز.

تجربة بن باديس
عالم أفكارنا إذا كان مملوءًا بالأفكار القاتلة التي تمنع الحركة فلن تجدي الخطب الحماسية والشعارات الرنانة، فالشيخ عبد الحميد بن باديس، في الجزائر، وجد أن المُستعمر الفرنسي قد استولى على عقول بعض الجزائريين من أتباع الطرق الصوفية (الطريقة القدرية) التي كانت فلسفتها قائمة على أن احتلال فرنسا للجزائر قدر من أقدار الله! وأن مقاومة أقدار الله هي نقيض الإيمان، وكان نشيدهم "اعتقد ولا تنتقد"، فهل يتخيل أحد منا بعد ذلك أن يحمل أتباع هذه الطريقة يوما ما سلاحاً في وجه المحتل الفرنسي ويقاومه؟ لذلك أصدر الشيخ عبد الحميد مجلة سماها "المنتقد"، وفنّد فيها هذه الأفكار القاتلة التي تقتل القدرة على الفعل وتبعث على اليأس والاستسلام وتشل قدرة الشعب الجزائري على المقاومة وقتال الفرنسيين.

فلا بد أن نحرر عقولنا أولاً من الأفكار القاتلة لأنها هي العقبة الأكبر والأخطر في مسار التغيّر على المستوى الشخصي والمؤسسي والجماعي والحزبي والجماهيري؛ وهي البداية الأولى من أجل التغيّر الشامل؛ فإذا لم ينضبط عالم أفكارنا المضطرب لن يحدث تغير لا كبير ولا صغير، وسنظل نجري بسرعة كبيرة ولكن كمن يجري في المكان يعرق ويتعب ويظن أنه قطع الآفاً من الأميال والحقيقة المرّة أنه ما زال تحت سقف بيته وبجوار سريره!!

فعالم الأفكار القاتلة التي تمنع الفعل وتشل القدرة تقدم للخصوم وللمستبدين وللأنظمة القمعية إنسانا منزوع الإرادة والقدرة، فماذا يبقى بعد ذلك في الإنسان من قوة، فبداية التغير للأفراد والأحزاب والجماعات هو فرز عالم الأفكار في العقول ونزع الأوهام الضارة فيه التي تمنع من الإبداع والانطلاق؛ فإن الأوهام في العقل أشد وطئاً على الإنسان من الأغلال في اليد.

(مصر)