ذاكرة هائل – الدائري

ذاكرة هائل – الدائري

30 يوليو 2015
تفجير هنا وعبث هناك (فرانس فرانس)
+ الخط -
لا يمكنك أن تكون راضيا، أو ربما هذا ما اعتدنا عليه، في عام 2014 كنت أصحو صباحاً لأبصق: ما الذي يمكن أن يحمله هذا اليوم أيضا من أخبار سيئة؟ تفجير هنا وعبث هناك وأخبار تجعلك تتمنى لو كنت قردا على شجرة في غابة مجهولة على أن تكون بشريا، لكني أنهض.


يجب أن أحافظ على أذني صماء إلا من الأغاني، فأنا مواطنة أستقل الحافلات العمومية يوميا وبمعدل مرتفع، وبالتالي فأنا مواطنة مجبرة على سماع كل شكاوى وترهات ومآسي وخصومات واقتراحات الشعب اليمني بكل فئاته التي تستقل الحافلات وهي الفئات الغالبة.

كان يحدث هذا طوال اليوم في الأعوام السابقة منذ بدأت عملي في شارع صخر، لكني قررت في عام 2014 أن أخفض نسبة استخدامي للحافلات وأن أستخدم ساقيَّ عوضا عن ذلك. 
كان هذا اقتراحا دفعته أزمة المشتقات النفطية التي تعصف بالبلد منذ عام 2011 وأيضا قرارا اتخذ على سبيل التغيير، حتى لا تكون الأعوام متشابهة في كل شيء حتى في الطرق.

وهكذا كان: أصحو صباحا أشغل إذاعة "الإف إم" ثم أمضي في رحلة الألف خطوة -لا أعرف بالضبط ربما أقل بكثير- من ش16 إلى الدائري، مارة بمخازن الروني حيث يتجمع عمال ما، مخترقة حشود التلاميذ الذين يمشون لوحدهم أو يصطحبهم أهاليهم، مجتازة شارع هائل في الصباح، الذي لا يشبه نفسه في الصباح ويبدو مستكينا وهادئا، التفت البسطات حول نفسها واختفى الباعة المتجولون وهدأت الأصوات، وخطوات إضافية لأشتمّ رئحة الخمير والشاي بالحليب من المقهى العدني في رأس الحارة، ويوميا خلال أيام الدراسة ألتقي بالفتاة القصيرة بالبالطو الكحلي لطالبات الثانوية وهي بوجهها الأبيض الجميل متجمهة غير راضية، ويحدث أن يكون تلاميذ مدرسة معاذ بن جبل ومدرسة أسماء قد اختلطوا في أزيائهم الموحدة وبدأوا الشجار، وأنا لا أتوقف قط.

من أغنية لأخرى أعرف أني اقتربت أو ما زالت بضع خطوات. وأقول آها آها! ها أنا اليوم أقترب من حيطان المباني لأن الشمس أصبحت أقرب وأشد، بدأت منذ يناير/كانون الثاني حيث كانت الشمس لا تغطي هذه الحارة في الصباح ثم في مارس/آذار كانت تغزوها حتى منتصفها، انظروا إليّ في يوليو/ تموز حيث ألتصق بالحيطان اتقاءً لشرها، ويحدث أن أتكاسل، يحدث أن أقرر أن استقل الحافلة من 16، ويضيع عمري في زحام جولة هائل بغداد، عندما ينسى الشرطي أن يفتح الإشارة وأشتمّ رائحة الكباب من الجولة الأخرى حيث أستقل حافلة عصر باب اليمن. هي كلها طرقي وهي كلها شوارعي، وكلها أماكن كرهتها في فترات ما، وكلها صور حفظتها في مخيلتي وانتميت إليها رغما عني، تدور الأرض دورتها كاملة وهي تحملنا على ظهرها وتحمل معها أماكننا، وما احتفظنا به من روائح وأصوات وصور ونعتقد أن هذا أبدي.

تقول لي ليزا، التي قطعت معي تلك الشوارع: لم تعد هي، وكل ما سبق قد صار آخر، ما كان روتينا نكرهه صار سكينا في الذاكرة، والكتابات التي أثارت سخريتنا على الجدران تمحى مع جدرانها، وليس هناك تلاميذ ولا بسطات وسائقو الحافلات صاروا أقل لطافة ونحن نحتمي بالجدران من الشمس والرصاص والانفجارات وقت الظهيرة وحين المساء، تقول لي ليس هناك ما عرفتيه.. وسكين الذاكرة تحفر الذين يمرون بشوراعهم فلا يعرفونها، وتحفر ذاكرة الذين لم يقولوا وداعا ولم يلتقطوا الصور تحت الشجرات القليلة ولم يزروا عيونهم ليروا من خلال الشمس ألوان القمريات في البيوت والنقش على الجدارن، ولم يلصقوا الأغاني التي استمعوا إليها مرارا على نوافذ الحافلات والأرصفة المزدحمة، حتى لا تستطيع الفكاك منها وتجلبها معها إذا ما استمعوا إليها من جديد. لم تكن الخطة أن تصير مدننا ركاما. كانت الخطة أن نبدأ من جديد. كانت الخطة أن نزرع أشجارا نستظل بها في سبتمبر/ أيلول وإخوته، لا أن نحفر القبور ونكون الأوائل في نشرات الأخبار.

(اليمن)

دلالات

المساهمون