اليمن.. حرب داخل الحرب

اليمن.. حرب داخل الحرب

04 يونيو 2015
إنها حروب كثيرة ودمارات أكثر
+ الخط -

يدور سؤال ويستمر بالدوران ولا يمل: متى ستنتهي الحرب؟ ويردده الأشخاص كل لحظة ويعودون إلى سؤاله بعد ساعات ويجيبون عنه في كل مرة إجابة جديدة وينتهون إلى نهايات جديدة.

تقول إحداهن مثلاً: "ستنتهي الحرب العليا قريباً" تقصد بالحرب العليا القصف الوحشي الذي تنفذه طائرات التحالف. وتصر ابنة عمي: "الحرب على الأرض ستستمر سنين طويلة، لن يسلم أي من الأطراف بسهولة "وتؤكد، أيضاً، أن الحرب العليا ستنتهي قريباً.

تقول صديقتي: "ما نعيشه الآن رفاهية، سنعيش أياماً سوداء".

ويقول أخي: إن "ضحايا الناس من الجوع ستكون أضعافاً مضاعفة لضحايا الحرب".

وأتذكر، أنا، نظرية "مالتوس" في محاولة لفهم وبلع هذا الجنون: الطبيعة تحرض البشر على هذا الجنون والتاريخ يصنع دورته كاملة.


لكن من الذي يفكر بعقلانية أو حسب "مالتوس" أو أي آخر، في الأخير نحن في وضع حرب والتفكير الوحيد الذي يستولي عليك هو: هل سأموت قريباً أم سيموت أحدهم قريباً؟ ويموتون فعلاً، إما أنت أو آخرون إذ إن الجميع يستمرون في الموت تلبية لحاجة الحرب، وخيال من قبيل: سأصحو غداً لأجد الحرب وضعت أوزارها كما في الأفلام الوثائقية لما حدث في الحرب العالمية الثانية، خيال بعيد جداً.

يمشي الناجون من تلك المجزرة المليونية للبشر في الشوارع المدمرة وهم يعرفون وواثقون أن الحرب انتهت وأنه لن تسقط قذيفة هنا ولن ينطلق الرصاص من أي زاوية، ومهما بلغ الدمار، استند أولئك البشر إلى حقيقة تبعث التفاؤل: لن يموت المزيد ومن هنا سنبدأ الإعمار، وهذا بالضبط ما لن يحدث في حالتنا وهذا بالضبط الذي يتمنى هؤلاء الملايين حدوثه، من الذي سيحقق أمنية مثل تلك: المتحاربون أم الخطط العالمية المتناحرة المتسابقة للقوة والنفوذ؟ ليس أي منهم.

وليس هذا المرعب فقط، فبإطلالة صغيرة على كتابات المواطنين اليمنيين على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" وخصوصاً في صفحات الشخصيات العامة التي تجذب أكبر قدر من المعلقين على الأحداث، يصاب المرء بالرعب.


كل هذا الحقد! كل هذا العنف! كل هذا الجنون المناطقي والطائفي، كل هذا الاستعداد لنفي الآخر وسحقه ورفضه، تحدث الحروب وتنتهي، لكن هذه الشروخ المجتمعية لا تنتهي ولا تندمل، تظل قائمة في البنيان المجتمعي ومبررة وشارحة لكل حرب جديدة.

استبدلت اللغة البسيطة للمواطن اليمني من لغة تحث على الكرم وقبول الآخر، لغة تنبذ العنف والظلم وتذكر، دائماً، بالثوابت القبلية والمدنية وخلطهما، لا تؤذي آخر ولا تظلم آخر هذا عيب وهذا عار وهذا غير إنساني، استبدلت هذه اللغة بلغة الحرب واللعنات والتعيير بالمذهب والمنطقة واستيراد تاريخ مشوه وثوابت قذرة لم يكن باستطاعتنا تخيلها حتى في كوابيسنا، إذ يستطيع على مرأى من الناس وبدون خوف أو خجل أن يشمر عن ساعديه ليكتب تعليقا: "كل أهل الجنوب مستباحة دماؤهم وإنهم سيقتلونهم فرداً فرداً"، فيرد عليه جنوبي آخر: "أهل الشمال سيقتلون بالمقابل فرداً فرداً"، ويدعو صراحة إلى قتل أي "كائن" شمالي يتحرك أو يقطن في الجنوب، ويأتي أحدهم مندداً بـ"المجوسي الرافضي ابن المتعة"، ليهجم عليه آخر، واصفاً إياه بـ"الداعشي الوهابي حذاء آل سلول"، يقصدون "آل سعود".

ثم تنبري فتاة قائلة اقتلوا بائعي المكسرات "الصنعانية" في تعز، وتجيبها فتاة من عدن بأن لا نريد أي أحد من تعز ولا حتى البائعين على الأرصفة لأنهم خونة ويساعدون المعتدين الحوثيين.


ويستمر الحشد ويستمر التمترس، وهؤلاء الذين ولدوا، بالأمس، ولم يعرفوا التاريخ، أصبحوا يستخدمون لغة القتل والتنكيل أكثر من تنفسهم ويستعدون بشكل كامل لأن يبرروا معتقداتهم العنيفة وأن لا يتيحوا لأي مراجعة عاقلة أو إنسانية أن تكون ضمن حوارياتهم، ولك أن تتخيل أي مجتمع هذا الذي ستتوقف فيه الحرب طالما أن أبناءه صاروا بهذا المستوى من الحقد والعنف، ويختبئون وراء هذه المتاريس من الطائفية والمناطقية القذرة.

يتخيل الواحد منا برعب كيف سيصير مستحيلاً أن يمر الشمالي من الجنوب، وكيف ستكون الحال في الجامعات والمدراس والأحياء التي خلطت هؤلاء سابقاً، كيف سيتعامل ضحايا هذه الحرب مع إخوتهم ممن لم يكونوا جناة، لكن ذنبهم أنهم من الطرف الآخر من المنطقة الأخرى ومن الطائفة الأخرى، ما الذي سيشفي كل هذه القروح في الجسد اليمني؟

دمرت آلة الحرب الحوثية القذرة كل شيء، من المدن والطرقات وشكل الدولة والعملية السياسية، مروراً بالعلاقات الاجتماعية والسلم الأهلي والإنسان، حرفياً دمرت الإنسان، فلم يعد هناك ما يمكن أن نسميه المواطن أو الإنسان اليمني السوي، أنهكتهم هذه الحرب القذرة قتلتهم وصنعت في كل بيت حزناً لا ينسى وحقداً لا يموت، أذلتهم في الداخل والخارج، جوعتهم وحرمتهم كل مظاهر الحياة الطبيعية وأعادتهم قروناً إلى الوراء وصنعت بينهم العداوات التي تدمر كل نسيج وكل عائلة، أصدقاء قاطعوا أصدقاءهم بل وقاتلوهم، وجيران عاشوا المعاناة معاً لكنهم الآن اختصموا وتباعدوا.

ما لم تنجزه الخيانة الحوثية أنجزته طائرات التحالف، دمرت بالصواريخ ما لم تدمره الدبابات الحوثية، وصنعت رعباً شاملاً اجتاح المدن اليمنية، وإذلالاً إضافياً بالحظر الجوي والبحري لتضيف معاناة العالقين في الخارج إلى معاناة الداخل، وكما تركت هذه الصواريخ المتوحشة مئات أو آلاف الضحايا من يعرف، أيضاً خلقت آلاف المرضى النفسيين الذين يروعهم ليلياً ويومياً أزيز الطائرات وانفجارات الصواريخ والقنابل ورعب انتظارها وعدم النوم والذل والغضب المرافقين لكل هذا.

إنها حروب كثيرة ودمارات أكثر، يخلق الحرب رجال مرضى ورجال خونة ليخلقوا مجتمعاً مريضاً بآلام كثيرة وفي حربنا ستخلق مجتمعات مريضة وآلام تخلق حروباً جديدة ولا منتهية لذا فسؤال: متى ستنتهي الحرب؟ هو سؤال كالجرح كل ما لمس كلما ازداد إيلاماً.. ولن تنتهي هذه الآلام قريباً!

(اليمن)

المساهمون