نزف الشباب... أو الموت يأساً

نزف الشباب... أو الموت يأساً

19 نوفمبر 2015
وسنبقى متمسكين بالحياة (أمين الأندلسي/ الأناضول)
+ الخط -

باتت العاصمة الفرنسية، ليلة السبت/الأحد الفائت، كانسةً شوارعها من الأضواء والزحمة، تاركة خلفها آثار دماء سالت على رصيف الحلم الباريسي. صدمة عارمة ارتسمت على وجوه الفرنسيين، جراء مجزرة متنقلة طافت أحياء المدينة الشرقية، وأسكنتها في رعب لا يزال يتردد صداه، وامتدت هزاته الارتدادية إلى بروكسل وهانوفر ولندن.  

للضحايا أسماء وعناوين وصور وذكريات، ولا يتشابهون بأي حال مع القتلة السبعة، إلا كونهم في معظمهم من الشباب. فجغرافية الاعتداءات الستة التي سقط فيها 129 شخصاً، فضلاً عن مئات المصابين، تمتد على شارع يضج حيويةً، ساقطٍ بين مسار متعرج لنهر السين، بدءا من "ستاد دو فرانس"، نزولاً إلى المطعم الكمبودي وحانة كارليون، مرورا بريو دي لا فونتين ومسرح باتاكلان غير البعيد عن ساحة الجمهورية، وصولاً إلى بوليفارد فولتير وحانة ايكيب، هناك في ليالي السبت، تعج هذه الأماكن بالشباب المتمردين على كل أنماط لاهوت السلطة، غير آبهين بألاعيب الأمن وخطابات السياسيين، وبينهم أيضاً اندس سبعة يائسين فرنسيين أيضاً، لم يبرروا فعلتهم الدنيئة، ولم يقولوا شيئاً وهم يودّعون هذا العالم. رغم ذلك تطايرت الشائعات في الصحافة، عمن خطط ودبّر. وكالإرهاب اليائس، طيّرت "داعش" رسائل بأن الهجمات ردٌ على ما يجري من مذبحة في سورية، وانتصار لنبي المسلمين.

وبأقل درامية، عندما وقعت مقتلة أسبوعية شارلي إيبدو قبلها بـ10 شهور، تسابق الساسة والزعماء والنخب الثقافية للوقوف ضد كتم الحريات، رغم أن من بينهم من هو أبعد عن الحرية. وفي الحالة الأخيرة التهبت خطوط الهاتف بين حتى متعارضين على المصالح في المنطقة العربية، وجاء الرد سريعاً بقصف خرائب الرقة، تمهيدا للانتقام العالمي من إرهابيي "داعش"، ولازم ذلك تلويح بـ"باترويت آكت" فرنسي، وحملة مداهمات امتدت من سين سان دوني إلى حي مولنبيك غربي العاصة البلجيكية بروكسل، بحثاً عن المخططين والمشاركين والخلايا النائمة.

نسي عن عمد أن القتلة السبعة، هم شبان فرنسيون وبلجيكيون لغةً وحياةً، تكونت ثقافتهم في فرنسا وبلجيكا، وتشكل فهمهم للتدين من قلب حواري المدن الأوروبية، قتلوا شبانا مثلهم، منهم من هو ساخط على السياسة والسياسيين، ومتحررون من سطوة البرجوازية وتابوهات العلمانية، متمردون كتمرد موسيقى الجاز والميتاليك في باتاكلان.

وكعادة أصحاب الحلول الأمنية ومدّعي الديمقراطية المنضبطة، دقّت طبول التحريض ضد التطرف، غامزين من منشئه، ومفصلينه على الكيفية إياها منذ 11 سبتمبر، وبين ملاحقة بصمات أصبع وجواز سفر سوري، بين صحافي بريطاني في "الديلي تليغراف" كيف أنه بادعائه أنه مصري يريد الهجرة إلى أوروبا استطاع الحصول على جواز سفر سوري مزور خلال دقائق.

لا ينبغي هنا، غض الطرف، أو تبرير الإرهاب بأي حال بالتفسيرات والتحليلات، ولسنا في معرض الحديث عن التطرف وأسبابه ومنشئه، أو جاذبيته في المنطقة العربية، للعلاقة المركبة بينه وبين الاستعمار ونشوء إسرائيل، وتالياً وقوع الشعوب العربية بين فكي الاستبداد السياسي ورأس المال السلفي.

ودعاة الإرهاب هنا، ليسوا في قندهار أو الموصل والرقة فقط، بل ينتشرون في عواصم أوروبا الغربية، وجمهورهم من حواف الضواحي ومجاميع المهمشين من الشباب الأوروبي، الذين يحجون للقتال في المشرق ويعودون للانتقام في الغرب.

هؤلاء الشباب، وآخرهم السبعة، التي بينت الوقائع أنهم قادمون من خلفيات جنائية، وبعضهم متحلل من الأخلاق والقيم المحافظة، لا ينبغي إخراجهم من سياقهم الاجتماعي وإعادتهم وقت ما تريد أوروبا إلى أصولهم العربية، هؤلاء هم جزء ضئيل من شباب عربي توالت عليه نكبات السياسة والاستبداد والإفقار والتهميش، فلم تكن حواري بيشاور والقاهرة أفضل حالا عليهم من جحيم الحياة من مولنبيك البلجيكية.

وتصح المحاججة هنا بأن شباباً عرباً، هم غربيو المولد والنشأة، ويصحبهم أقران لهم من المهاجرين كجيل أول، هم أيضاً مندمجون في المجتمعات الغربية، كفنانين وموسيقيين وأطباء ومحامين وسياسيين وصحافيين، وعليه فإن شبابنا الذي وصف بالإرهابي أو في خانة اليائسين، لن يردعه حل أمني أو يخوفه صريخ الأصوات العنصرية والمطالبة بالانتقام. هؤلاء الشباب ليسوا إسلاميين ولا متطرفين، ولن تنجح مثل هذه المقاربات إلا في إذكاء المزيد من دعوات الانتقام والثأر، فهم في الأصل مهمشون خارج دائرة الاستيعاب الطبقية في مجتمعات الغرب الرأسمالي، يتقاطعون مع ضحايا القمع في البلدان العربية، وهم اليائسون بقتل أنفسهم والآخرين، خدمة لقوى سياسية دولية وإقليمية. ولربما هنا فقط تتساوى الضحية مع قاتلها.   

اقرأ أيضاً: مولنبيك ــ بروكسل... عاصمة أوروبية لـ"جهاديي" العالم

المساهمون