الضفّة المنتفضة: ما تحت اللهيب!

الضفّة المنتفضة: ما تحت اللهيب!

08 أكتوبر 2015
الضفّة المنتفضة (Getty)
+ الخط -
أوائل التسعينيّات، في ذروة الانتفاضة الأولى، أتيح لـ "أبو عماد" فرصةٌ ذهبيّة، خرج من قطاع غزّة، وتدرّب تدريبًا مكثّفًا واحترافيًا على إطلاق النّار، وفنيّات الاشتباك، وما إلى ذلك، ثمّ عاد إلى غزّة ليقاتل في صفوف كتائب القسّام.


في لقائه الأول بمسؤوليه، قال له قائده المباشر: "لدينا مشكلةٌ كبيرة، نحنُ نشتبكُ مع العدوّ من مسافةٍ صفريّة، ونطلق على الجنود رصاصًا غزيرًا، لكنّهم لا يموتون!" فقال له "أبو عماد": ربّما لأنّكم لا تُحسنون إطلاق النّار"!

استفزّت الإجابة القائد، فقال له: إذن نراك في العملية المقبلة! خرج "أبو عماد" في أولى عملياته، كان أداؤه أسطوريًا، وكانت عمليّةً مدوّية!

أثرُ التّدريب كان واضحًا على الرّجل، كما هو واضحٌ، الآن، على جنود النخبة التي اشتبكت وجهًا لوجه مع الصهاينة في الحرب الأخيرة، وكان تفوّقها –في الاشتباكات المباشرة- ظاهرًا جدًا، كما في تسجيل نحال عوز الذي شهده العالم!

الأحوالُ في الضفة، الآن، تشبه كثيرًا أيام الانتفاضة الأولى، احتلالٌ شبه مباشر، زد عليه أجهزة التنسيق الأمنيّ، التي جعلت الأمور أسوأ وأكثر تعقيدًا، ففي الانتفاضة الأولى: كان الذي يسألُ عن أي معلومةٍ تمتُّ للمقاومة بصلة عميلًا، أما الآن: فقد يكون ضابطًا له قدرُه واحترامُه ومكانته الاجتماعية!

لذلك كلّه، فإنّ مسألة التدريب على قتال العدوّ الصهيوني، إطلاق النار والاشتباك تحديدًا هو أمرٌ شبهُ مستحيل في الضفة، وهذا ما يفسّر سرّ نجاة المستوطنين الأربعة الذين أصيبوا في عملية "شفوت راحيل"، قرب نابلس أواخر حزيران الماضي، وعدم وفاة أي منهم، على الرغم من إطلاق كمية مهولة من الرصاص عليهم من مسافةٍ قريبة جدًا!

ومنذ أيّام، أعلن العدوّ الصهيونيّ اعتقال خليّة تابعة لكتائب القسام في نابلس، واتّهمها بتنفيذ عملية "إيتمار"، ذكر العدو أنّه توصّل إلى المجموعة من خلال خطأ فنّي وقعت فيه المجموعة، حيثُ أصيب أحد أفرادها برصاص زميله أثناء تنفيذ العمليّة، ما تسبب في اضطرابهم أثناء الانسحاب، وتركهم مسدّسًا خلفهم! فعجّل ذلك بالقبض عليهم.

ما لم يذكره العدوّ، هو أنّ الشابّ المصاب تعرّض لتحقيق مكثّف من أجهزة السلطة عقب دخوله المستشفى، وبعد أخذ إفادته من الأجهزة الأمنية بساعات قليلة، حضرت قوة صهيونية كبيرة، واعتقلته من داخل المستشفى، ولا يمكن بحال النظر ببراءة إلى هذه المصادفة الجميلة، ولا إحسان الظنّ بأجهزةٍ لم تقم إلا من أجل التنسيق الأمنيّ!

ما جرى لأبطال "إيتمار" من كشفٍ سريعٍ لخليتهم، ثم القبض عليها، تتحمّل سلطة التنسيق الأمنيّ مسؤوليته مرّتين، الأولى: بسبب ملاحقتها الشاملة لكل نشاطٍ مقاوم، ولأيّ محاولة تشكيل مجموعاتٍ عسكريّة مقاومة منظّمة، ما يمنعُ فرص التّدريب والتأهيل اللازمين لتلافي الأخطاء القاتلة، والثانية: بسبب الاستجواب المشبوه للمجاهد الذي قيل: إنه أصيب في العملية!

يصعبُ إخفاء الحسرة والألم، لوقوع خليّة من الأبطال سريعًا في قبضة الاحتلال، على نُدرة المجموعات المقاومة المنظّمة في الضفة، والحاجة الملحّة لها هناك، لكنّ العمل المقاوم عمومًا لا تُحسبُ نتائجه بالحسابات الرياضيّة، فما تلا العملية البطولية من تفاعلٍ جماهيريّ كبير، ارتقى إلى مشاركةٍ ارتجاليّة مثيرةٍ للإعجاب والدهشة في آن، كعملية الشهيد البطل، مُهنّد حلبي، حيث استطاع ابن التاسعة عشرة بسكّينه أن يطعن أربعة من الصهاينة، ويردي اثنين منهم قتلى، بعد انتزاعه مسدّس أحدهما! ثم تبعه على ذات الطريق المقدسيّ فادي علوان، واشتعلت الضفّة كلّها بدمهما حتى هذه الساعة.

مهنّد خاصّة، بصغر سنّه، وحرارة كلماته وصدقها على "فيسبوك"، ومبادرته بإعلان انطلاق الانتفاضة وحده، ثم تصديقه ذلك بدمه ودماء عدوّه، ونجاحه في الإثخان في العدوّ بإمكاناتٍ غاية في التواضع، كلّ ذلك كان له أثرٌ رمزيّ كبيرٌ في نفوس الشباب، أحيا أملًا، وأقام حجّة، وأثبت أن كثيرًا من الأفعال ممكن إذا ما توفّرت الإرادة والعزيمة والنيّة الصادقة.

لقيت الضفّة كثيرًا من العنت سنواتها الأخيرة، واشتدّ بها الحالُ أيامها الماضية، العدوانُ المتوالي والمتصاعد على الأقصى، حرقُ الرضيع علي دوابشة، قتلُ هديل الهشلمون بدمٍ باردٍ أمام الكاميرات بسبب حجابها، عانت الضفة جدًا، ويبدو أنّها كانت بحاجةٍ إلى شرارة الأمل، التي أشعلها أبطالُ عملية "إيتمار" برصاصهم، ومهند وفادي بسكينيهما، وسائرُ الأبطال قبلهم وبعدهم بالحجارة وما تيسّر!

أدهشت انتفاضة الضفّة الجديدة (الأكبر والأعنف منذ السور الواقي) المحبّ والمبغض، وما زالت تتفاعلُ وتكبرُ يومًا بيوم، متجاوزةً السلطة التي اكتفت بتصريح بارد، يدّعي أنّ التصعيد من مصلحة "إسرائيل"!

الآمالُ كبيرة ألّا ينجح الاحتلال وأجهزة السلطة المؤتمرة بأمره في إخماد الهبّة العارمة، وأن تتشكّل الحاضنة الشعبية المتماسكة، التي تمكّن المقاومة من إعادة البناء، والعمل المنظّم، والتدّريب والاحتراف، وتلقين العدوّ أعظم الدروس وأوجعها، وما ذلك من تاريخ هذا الشعب وتجاربه ببعيد!

(فلسطين)

المساهمون