خطأ زياد خداش.. خطأنا الصحيح

خطأ زياد خداش.. خطأنا الصحيح

12 ابريل 2015
(منشورات الأهلية، عمان، 2015)
+ الخط -
للمرّة الخامسة أو أزيد، تأخذ مشاهد الحياة اليومية ببساطتها وتفاصيلها غير المرئية أحياناً، شكل المواد الخام بين يديّ الكاتب الفلسطيني زياد خداش، يعجنها ثم يعرضها لحرارة الكلمات؛ فتنضج بجمالية عالية على شكل نصوص قصيرة، ذات مؤثرات ونبض فني ساحر. سخّر لها الكاتب حواسه ومنطقه وأسلوبه كي يرسم دهشته من الحياة على ورق، ويضعنا أمام تأملاته وتأويلاته الذاتية تجاهها. يشركنا نحن أيضا، كقرّاء، في فخّ مرآة نصوصه الإبداعية والتعبيرية.

يستهل خداش نصوصه التي جاءت بعنوان "خطأ النادل"، بنصّ "قهوة"؛ أخبرنا فيه بخطأ النادل المتجاوز لوجود الكاتب (مخاطباً نفسه) وصديقه في الحاضر، ويقدمها لهما بعد ثلاثين عاماً. بعدها، ينتقل الكاتب إلى نصوص مختلفة المضمون والفكرة بدون نسق أو ترتيب شكلاني محدد، تباغتنا فتقتنصنا بلذتها. ثيماتها المتعددة مغلفة نوعا ما بالرومانسية، وشيئاً ما بالسوريالية، وتبقى هي الروابط الكيميائية التي تجمعها من بدايتها حتى نهايتها. أكبر النصوص حجما يأخذ صفحة وأصغرها سطراً أو نصف سطر على الأرجح، إلّا أن كل نصّ يحتفي بعنوان خاصّ به يدلّ أو يلمح للمغزى المقصود، ومركب في مجمله من كلمة واحدة قد تخلخل من توقعات القارئ، وهو ما أثبتته، أو تصدقها، وهو ما نفته. كلّ نصّ يستقلّ ويستفرد بحادثة أو مشهد لحظي وقع في حياة الكاتب الماضية أو يقع معه الآن، يتحول فيها القارئ إلى صديق، يعرف منه بأن عنده عقدة سقف، أو يصطحبه ويشم معه رائحة (عمال) مخيم الجلزون، في سيارة الفورد التي يركبونها للعمل صباحا بطريقة غير قانونية، أو إلى أماكن بأسمائها كمدينة رام الله، الأكثر حضوراً في النص بمقاهيها و"نزلاتها"، البردوني، الطيرة، يليها غزة التي تظهر في نصوص ذات توليفة من المشاعر تجاه أطفالها تحديداً، يتضح فيها بأن خداش كتبها أثناء العدوان الإسرائيلي على القطاع. وباعتراف هامس جاء في نصف سطر، يشارك القارئ بهوية أول حبّ له، أو صفعة جده خليل التي ذكرته بوضوح بمعنى لاجئ، بمعنى الصفيح.

خاض خداش تجربة النصوص والقصص القصيرة منذ التسعينيات. انفرد بها وأخلص لها على حساب الأشكال السردية الطويلة، ليصبح في رصيده الأدبي والإبداعي ما يقارب العشرة أعمال، منها: "كأن شخصاً ثالثاً كان بيننا"، "إذا لم تكن لك حبيبة"، "خذيني إلى موتي"، "الشرفات ترحل"، "شتاء في قميص رجل". يتراءى لنا في عمله الأخير استعماله المكثف للاستعارات اللغوية، والتي بدورها أفرزت مقاربات خلعت عنّا مباشرة أقنعتنا، كما في نصّ "كروان" المتسول الذي مات دون أن يلاحظ أحد غيابه، سوى الكاتب الذي طلب من مدينة رام الله الوقوف "دقيقة اعتذار وذهول لغياب كروان". خداش معلم الكتابة الإبداعية في إحدى مدارس رام الله بإنسانيته وكينونته، تبنّى الواقعية بمآسيها وناسها وصوّرها لنا بنصوص ذات أبعاد حسيّة. في لحظة تفاعل القارئ معها تتخلّى هذه الكتابات عن خصوصيتها كجزء من الكاتب، لتصبح جزءا من القارئ بكامل القضايا التي تتناولها وتتبناها، وأبرزها بالطبع الواقع الفلسطيني باختلالاته السياسية والقيادية، إضافة إلى موقفه من بؤس نظام التعليم هناك، نظام لا يفهم معنى "الأسئلة الصادقة" لطلابه ويعتبرها إعاقات ذهنية لديهم.

يطوّع خداش كلماته وفق ما يريد، يخفي فيها ما يستطيع ويفضح بصراحة قاتلة أحيانا أخرى. يلوذ أيضا بالسخرية بشكل مضحك مبكٍ كما في نصّ "مستحيل" الذي يسخر فيه المادي صاحب السفر والكافيار من صاحب البعد الذهني الإبداعي.

يختتم الكاتب بنصّ (المسمار) حول علاقته القديمة مع رب العمل، وبقيت آثارها المؤلمة مسماراً في ذاكرته. هكذا هي نصوص خداش، هي في الحقيقة مسامير تثير الرغبة في امتلاكها وقراءتها والثراء منها لغويا وأدبيا وإبداعيا. هي خطأه الصحيح والماهر بدون مغالاة.

(صحافية فلسطينية)

المساهمون