كرامة السّرد السوداني

كرامة السّرد السوداني

31 مارس 2015
+ الخط -
ينهض المعمار السرديّ لـ"شوق الدرويش"، على فاعليّة إبداعية واعيةٍ بجمالية الكتابة. إذ إن مكوّناتها الخبرية والخِطابيّة نأتْ عمّا يمكن أن نسمّيه "الانفعالية السردية" التي باتت تحكم الرواية العربية المعاصرة، وتُجفّف فيها لُطفَ العقل الذي يحمي كلّ فعل إبداعي من تشتُّتِ فكرته ومجّانيتها. ولعلّ بمثل هذا اللطف العقليّ صار كلّ مُكَوِّن من مكوّنات "شوق الدرويش" بطلاً مُكتَمِلَ الملامح، يكاد يرقى في حاله وأفعاله إلى مراقي النَّموذج الأمثل؛ ذلك لأنّ المكان والزمان والتاريخ والشخصيات واللغة والراوي والكاتب والقارئ، كلّها عناصر تبدو كما لو أنها وُجدتْ لتتآلف في ما بينها.
اتخذت هذه الرواية زمنَ الدولة المهدية في السودان، أواخر القرن التاسع عشر، خلفيةً تاريخيةً أطّرت بها أحداثَها من دون الوقوع في مَطبِّ تأويل التاريخ وتفسيره على غرار ما نُلفي في رواياتنا العربية التي هرعت إلى مدوّناتنا التاريخية تتخيَّر منها بعض وقائعها إمّا لتحتفي بها أو لتبغضَها وتُشوِّهها وفق أهواء كُتَّابها الإيديولوجية والفكرية، متناسيةً في خلال ذلك كيانها السرديّ ذاته، من حيثُ هو حدثٌ إبداعي له كيمياء فنية فريدة. الأمر الذي جعل أغلبَ تلك الروايات تشيع فيها مظاهر الانفصام؛ فلا هي كتابة تاريخية عمادها النظر والتحقيق، ولا هي كتابة روائية عمادها التخييل والجدّة فيه.
وفي هذا الشأن، لا نعدِم في رواية "شوق الدرويش" وجود معلومات تاريخية كثيرة، جمّعها زيادة، عن فترة الدولة المهدية كظهور كرامات الإمام محمّد أحمد المهدي وأتباعه، وما أشاعوا بين الناس من أحلام تخليص السودان من حكم الأتراك، بل ونشر مذهبهم في مصر والشام وغيرها. إضافة إلى مظاهر الفساد الأخلاقي والاجتماعي، وانتهاك حقوق المرأة، ووصف مفردات المعيش اليومي من عادات المأكل والملبس وتقاليد الثأر والاستعباد والزواج. غير أن تلك المعلومات لم تحضر في نصّ حمّور للتوثيق التاريخيّ فحسب، بل حضرت لتزيد من توتّر مغامرته السرديّة، ولتمنح الشخصيات أسبابًا إضافيّةً لتتعارف وتتخالف، ولتُقبِلَ على حياتها في الرواية بكلّ جرأة مدفوعةً في ذلك بنزوعها إلى انتهاك الأشياء وهدم ثوابت المألوف الحاكمة لرِقابها. وبذا مثّلت الثورة المهديّة إطارًا عامًا زرع فيه الكاتب بذور حكايته، وحشد لها مجموعة من الفاعلين السرديّين لبناء عالمها، وألقى بهم في خضمّ أحداثها مُحمِّلاً إيّاهم مسؤولية مصائرهم، مثل بخيت منديل، وثيودورا، ومريسيلة، والحسن الجريفاوي، وغيرهم. فإذا كلّ واحد منهم ينوء بثِقَل حكايته الشخصية، ويسعى إلى الإجابة عمّا يتخفّى فيها من أسئلة اليقين الممزوج بالرّيبة والشكّ، والإيمان الممزوج بالكراهية والقتل، والشوق الممزوج بالحيرة والوهم.
تنعقد حكاية "شوق الدرويش" حول حياة عبدٍ أسود يُسمّى "بخيت منديل"، كان قد "افتكّه" تاجر رقيق من يد أمّه وباعه لسيّد أوروبيّ، ثم بِيع ثانية لتركيّ، وآل به الأمر إلى خدمة سيّد مصريّ، فعاش جرّاء ذلك حياة مليئةً بصنوف الهوان والمذلّة والاستغلال الجنسيّ، وهو ما رغّب إليه الدعوةَ المهديّةَ، فلبّاها أملًا في أن تُحقّق له حريّة ممكنة. ثم يلتقي بـ"ثيودورا"، وهي مسيحية من أصل يوناني يقيم والداها بمصر، قدمت إلى السودان لخدمة الجالية اليونانية بالخرطوم، فأحبّها. ولمّا تمكّن أنصار المهدي من القضاء على "غردون باشا"، الحاكم البريطاني بالخرطوم، وقتلوا قساوسة الكنيسة، تحوّلت ثيودورا إلى سبيّة لدى أحد السودانيين. وقد وجدت في بخيت منديل رجلاً ملأ عليها وحدتها بعشق وصل به إلى حدّ عرض الزواج عليها، إلاّ أنّها كانت دائمة الصدّ لطلبه، ولم يبدُ منها ما يحيل على كونها تبادله الحبّ نفسه. ولمّا تنامت دروشة أنصار المهديّ واستشرت كراماتهم بين الناس، واشتدّ ظلمُهم في الخرطوم، حاولت ثيودورا الهرب إلى أمّ درمان، غير أنها وقعت في أيدي هؤلاء، فعذّبوها حتى الموت. وقد دُعيَ بخيت منديل إلى حفر قبرها ودفنها من دون علم بأمرها. وهي الحادثة التي فجّرت فيه غضبه، وجعلته يقضي سنوات سجنه السبع محشورًا في "حجرة مظلمة كدنيا كفيف"، وكان فيها "ميتًا لولا العهد" الذي قطعه على نفسه بالانتقام لثيودورا.
اللافت للنظر في بنية المغامرة السردية لـ"شوق الدرويش"، أنها قامت على دعامة مجموعة مواجهات حادّة ومحمولة في ثنائيات متعالقة ومتضادّة في الآن نفسه، مثّلت حاضنةً سيميائيةً لمُتَخيَّل الرواية، وطاقةً مُحرِّكةً للبرامج السردية فيها، بل وموجِّهة لها وجهاتٍ خادمةٍ لمآلها وأهدافها الجمالية والحضاريّة. مثل ثنائيات المكان (أم درمان بوصفها دار الإيمان/ الخرطوم باعتبارها دار الكفر)، والزمان (زمان السجن/ زمان الخارج ـ زمان الحبّ/ زمان الانتقام)، والشخصيات (المستعمِر/ المستعمَر ـ العبد/ السيّد ـ المسلم/ المسيحي)، والأفعال (الشوق/ الصدّ ـ الحبّ/ الانتقام)؛ وهي ثنائيات أجاد حمّور توزيعها وفق إيقاعيات كميّة ودَلالية يرفد المعنى منها ضديدَه، وتتخفّف فيها اللغة من مألوف استعمالها.
وإذا ما تماهينا بأجواء الرواية في عجائبية شخصياتها وغرائبية أفعالها، جاز لنا القول إن حمّور زيادة يعلن بشوق درويشه عن ظهور "كرامةٍ" سرديةٍ بليغة، لا شكّ في أنها ستكون سبيل الرواية السودانية الجديدة إلى مزيد تأصيل كيانها داخل المشهد الروائي العربي بعد رائعة "موسم الهجرة إلى الشمال"، إذ يقدّم للقارئ العربي تراجيديا توصِّف فوضى حاضره السياسيّ والاجتماعيّ والدّينيّ وإن كانت متدثّرةً بإهاب تاريخيّ.

المساهمون