مكتبة الأعمدة

مكتبة الأعمدة

08 فبراير 2015
السيدتان جيروفي، مؤسّستا المكتبة (العربي الجديد)
+ الخط -
لا تزال السيدة راشيل مويال، المغربية اليهودية، وبعد أن تخطت الخمسينات من عمرها تزيح ستائر شرفتها كل صباح كي تسمح لذكرياتها بالدخول، قادمة من مكتبة الأعمدة التي أعطتها 25 سنة من عمرها قبل أن تتقاعد عام 1998. تعيش مويال منذ ولادتها عام 1949 في مدينة الحكايات، طنجة، في الجهة المقابلة للمكتبة في شارع باستور. كانت راشيل وهي طفلة تقطع الشارع يوميا إلى "الأعمدة"، تنظف النوافذ ثم تجلس لتفتش وتدوّن الكتب والمنشورات الحديثة التي تحتاجها، ثم تخرج مسرعة إلى المكتبة الفرنسية التي حصلت فيها على اشتراك في شارع آخر، وانضمت حينها إلى الرابطة الفرنسية للأدب وحضرت مؤتمراتها جميعا. لم تمّر أيام قليلة، إلّا وراشيل قد بدأت عملها في "Des Colonnes". تقول مويال في مذكراتها "سنوات عمري في مكتبة الأعمدة" (2010): "بدأت العمل في المكتبة الأسطورة إلى جانب سيدتي جيروفي وأنا أشعر بالخوف والرهبة، وكأنني في معبد... مرّة في 1973 عبرت الشارع لشراء كتاب سهل القراءة وحاجيات أخرى للاستمتاع بعطلتي على الشاطئ، ولكن دزينة من صناديق الكتب كانت قد وصلت للتو من فرنسا قد أوقفتني. كانت لموزعين عن دار غاليمار للنشر... هرعت فورا لمساعدتهم في إنزالها إلى جانب السيدة إيزابيل جيروفي". خدمت مويال في المكتبة إلى جانب سيدتي جيروفي قبل أن تتقاعدان عام 1976، ولكن من هما سيدتا جيروفي اللتان أورثتا عملهما لمويال؟ متى ومن جاء بفكرة تأسيس المكتبة؟ ما التطورات التي حصلت عليها؟ وما هو شكل المكتبة الآن؟

ميلاد المكتبة على يدّ جيروفي

ولدت مكتبة الأعمدة في صيف 1949 في شارع باستور (البوليفار) رقم 54، وكانت "المؤسسة" الثقافية الثالثة التي تأسست في المغرب بعد مكتبة "سيري" في الرباط، ومكتبة "فرارير" في الدار البيضاء. حينها، كانت مدينة "البوغاز" تتمتع بألقها السحري، وجعلت من الغرب يتنازع على سيادتها والفوز بموقعها الاستراتيجي الذي يبعد 14 كم فقط عن إسبانيا. بيد أنها أصبحت "نبض العالم" وتلاقحت فيه الثقافة الأوروبية بالأفريقية من دون حدود. كل هذا جذب الإمبراطور الألماني غيوم الثاني لزيارتها عام 1906، أعقبتها زيارت أخرى لمسؤولين أوروبيين أسفرت في نهاية المطاف عن وضع طنجة تحت نظام الحماية الدولي.

عائلة جيروفي البلجيكية كان لها دافع آخر لزيارة المدينة عام 1940، إذ جاءها الأخ الأكبر روبير جيروفي معلما في المدرسة الفرنسية العليا "ليسيه رونلت"، وعالم آثار وقيّم على متحف القصبة داخل أسوار المدينة القديمة. قرر روبير البقاء في طنجة ليستدعي زوجته إيزابيل (اليهودية المجرية)، وأخته إيفون للحاق به والعيش معه، لتبدأ سيدتا جيروفي العمل في محل لبيع الكتب الذي سرعان ما تحول إلى صالون أدبي مميز ولافت من حيث الحضور والتوجه ومكانا للمعارض الفنية أيضا.

تولّت سيدتا جيروفي إدارة المكتبة مدة خمسة وعشرين عاما (1950-1976)، وأثرتاها بكتب متنوعة اللغات، إذ نجحتا في إنشاء صندوق لتمويل شراء الكتب بلغات متعددة. ولتشجيع دعم هذا الصندوق قام روبير، بصفته رجلا ذواقة مرهفا للآداب، بمراسلة صديقه الكاتب الفرنسي أندريه جيد الذي عاش في الجزائر ليساعده في الأمر، كما قام بإهداء قطعة نقدية موسومة بصورة الإمبراطور هادريان إلى الكاتبة الفرنسية مارغريت يورسونار صاحبة "مذكرات هارديان"، والتي زارت طنجة ونزلت في فندق المنزه. كان روبير يطمح من هذا التشجيع أن تتحول المكتبة إلى مساحة يلتقي فيها أدباء العالم على اختلاف جنسياتهم، وبعد زمن وجيز تحقّق طموحه بالفعل، وأضحت التعددية السمة الأبرز للمكتبة والوسام الذي تقلدته على مرّ السنين.

في 1976، تقاعدت سيدتا جيروفي عن خدمة المكتبة، وجاء دور مويال لتتسلم مقاليد الإدارة، والحفاظ على الإيقاع الأدبي والجمالي والفني للمكتبة، ولكن مويال حولتها إلى أسطورة ورمز للمكتبات لا يمكن تجاوزها في المشهد الثقافي الذي تشكل تحت نظام الحماية الدولي للمدينة.

سنوات مويال في المكتبة

عكفت مويال على كتابة مذكراتها وأصدرتها عام 2010، والتي نتوقّف عندها هنا نظرا لأهميتها، ذلك أن مويال هي أفضل من وثّق اللحظات النادرة التي توالت داخل المكتبة. في الصفحة الأولى من هذه المذكرات جاءت المذكرات التي نشرتها بالفرنسية، تقول مويال: "بعد 25 عاما مضت سريعا على وجودي في المكتبة؛ اكتشفت السعادة النادرة التي لبّت عطشي في إيجاد التفسيرات الممكنة للأشياء واكتساب المعرفة. كنت مسحورة بعملي. لقد تعلمت إتقان العمل الصعب من خلال الكتب. في عام 1976، تقاعدت سيدتا جيروفي نهائيا، ولزم الأمر أن أقف بمفردي لأتابع أشغال المكتبة".

عندما كانت طنجة الوجهة المحببة للأدباء الباحثين عن الإلهام، تطورت المكتبة لاستيعاب ذلك الإلهام، تقول مويال في هذا الشأن "تطورت وأصبحت مكانا للاجتماعات ولقاء الكُتّاب المشاهير، كان منهم الطنجاويون أمثال الطاهر بنجلون، ومحمد شكري، ورشيد تافرسيتي، والعالميون أمثال جون هوبكنز، غافن يونغ، غافن لامبرت، كلاوديو برافو، نويل موستيرت... (وتضيف) كان العمل في المكتبة يتطلّب وقتا كافيا، والحب العميق للأدب. إنه عمل يستحق العناء لأنني في النهاية حظيت برضا واحترام الناس، إما عن طريق نصوصهم الجميلة أو بمجرد عباراتهم الرائعة... من بين أولئك الذين حصل لي الشرف بزيارتهم، كان السيد أحمد بلفرج الذي تصفح المجلات والهندسة المعمارية للمكتبة، وكان برفقته المقاوم الكبير عبد الكبير الفاسي. قال بلفرج آنذاك "الله وحده يعلم أن ما قمت به كان بهدف أن تبقى طنجة حالة خاصة ومتميزة، وفي الآن ذاته جزءا لا يتجزأ من المغرب".

تسترسل الكاتبة في ذكرياتها في الحديث عن مذكرات الحسن الثاني بعنوان "le Defi" التي نشرت بواسطة ألبين ميشيل، وقد حققت أكبر حجم مبيعات للمكتبة في عهدها. كذلك عن الأميرة رسبولي التي عاشت في طنجة لفترة من الزمن، وكانت أول من افتتح جلسات تواقيع الكتب بتوقيع كتابها "l'Epervier Divin"، تعبّر مويال عن الأمر "لقد كان نجاحا باهرا!"

عندما فاز الكاتب المغربي الطاهر بنجلون بجائزة غونكور عام 1987 عن روايته "الليلة المقدسة"، تسهب مويال في وصف شعورها وبقية زملائها في المكتبة بالفخر لأنه كان أول مغربي "يمنحنا هذا الفرح". وهو فرح امتد مع مويال، كما تقول "لأنها استقبلت في المكتبة أيضا أربعة ممن فازوا بالجائزة: أمين معلوف، ديدييه فان كوليرت وفرانسوا وييرجونس، وامرأتين أكاديميتين هما: مارغريت يورسنار، وآسيا جبار".

تخصّ مويال لقاءها بالكاتب والموسيقي الأميركي بول بولز و"الشحرور" محمد شكري بصفحات أكثر وحديث طويل. تذكر راشيل بشغف ضحكاتها المغمورة بالمحبة مع شكري: "لا يمكن أن أنسى محمد شكري، المرات الأولى التي رأيته فيها كانت خلال أعوام 1960-1970، حين كان يتناوب على المكتبة باستمرار، وكانت محادثاتنا ذكية جدا ومضحكة للغاية. كان يتشاور معي على الدوام في رده على المراسلات الكثيرة التي كان يتلقاها من الخارج".

ذاكرة مويال سجلت النصف الآخر الذي مرّ من تحت أقواس "الأعمدة" وهم الفنانون الذين عرفتهم شخصيا، أمثال المليحي، فونيتس، كلاوديو برافو، الفقيه الركراكي، بن دهمان، بوفراكش، لورانس ميونت، مارغريت، ماكبي، الحمري، رافييل سيدونشا.. إلينا برنتيس، برنارد هنري ليفي... والمناضلون المغاربة أمثال الصحافي الطنجاوي حميد برادة، الناشط اليساري السابق الذي اشتغل في مجلة "جون أفريك". فقد حضر أصدقاؤه إلى المكتبة لتوقيع كتابه "Yto". أما ناديا بنجلون فقد كانت أول امرأة تنشر محادثتها الخاصة مع ياسر عرفات.
أما عن معرفتها بالكاتب المغربي المعاصر إدريس الشرايبي فتقول بفقرة متوسطة: "كنت مبهورة جدا بمؤلفيه "الحضارة أمي" و"الماضي البسيط". يجب أن أعترف أنه في نهاية المطاف أصبحنا أصدقاء عن قرب وبيننا الكثير من الإعجاب والمودة". ولكن مارغريت يورسنار فازت "بإحساس قلبي عندما تعرفت عليها خلال باب "الأعمدة"، مارغريت ذهبت إلى قائمة الكتب الإسلامية واشترت كمية منها لتقرأها في فندق المنزه (مقر إقامتها)".

كادت المكتبة أن تصبح "مخبزاً"

بعد أن تقاعدت مويال من خدمتها، عانت المكتبة من المصير الذي عانته المكتبات الأسطورية الأخرى، فبعد أن توالى على إدارتها في أواخر التسعينيات عدة أسماء فاقدة للمؤهلات اللازمة، تأثرت المكتبة سلبا وانعكس ذلك على مسارها ورسالتها الأدبية والفكرية. كادت المكتبة أن تتحول إلى "مخبزة"، وتتبعثر الكتب ويلغى وجودها، ولكن رجل الأعمال الفرنسي الشهير بيير بيرجي المعروف في المغرب لإنقاذه حديقة مارجويل والمتحف البربري في مراكش، اختار الرّهان على إنقاذ "الأعمدة" كمشروع إنساني، لكي تستعيد مجدها وألقها الثقافي السابق. طمح رجل الأدب والفنون والهاوي لجمع اللوحات في أن يجعل من المكتبة مشروعا جديدا يربط بين الأدب في المغرب والأدب في خارجه، فموّل إعادة إصلاحها وتجديد رفوفها، بما يتناسب مع الذوق العام للقارئ، وبلمسة تصميم تجمع بين الماضي الأصيل والحاضر الأنيق.

للحفاظ على إرث المكتبة باعتبارها نقطة انطلاق لتشجيع الحوار حول التعدّد وقبول الآخر، الناتج عن التقارب التاريخي والجغرافي للمكان، تستقبل المكتبة فعاليات متنوعة مثل إطلاق الكتب، التشجيع على القراءة، وتنظّم مهرجانات أدبية باللغة العربية والفرنسية وحتى الإسبانية والإنجليزية. وثلاث فعاليات شهرية مستمرة يحضرها جمهور متنوع غالبيتهم مغاربة. كما ثمة مشروع يسعى إلى فتح مكتبة عمومية في قرية صغيرة قريبة من مدينة طنجة.

الحديث عن المكتبة لا يمكن أن يتوقف، خصوصا مع ذكريات مويال الأخاذة، وكل عاشق للمكتبة والكتب سيحسد مويال على أيامها الجميلة فيها، ويبدو أن هاميلين يدير المكتبة بذات النفس القديم. المكتبة هي معلم تاريخي وثقافي حقيقي، ويمكن لزائر مدينة الحكايات أن يزورها وتصبح جزءا من ذاكرته أيضا.

*كاتبة فلسطينية

المساهمون