اللغة في المغرب العربي.. ومازال الاستعمار مستمرا

اللغة في المغرب العربي.. ومازال الاستعمار مستمرا

22 فبراير 2015
المغرب.. يدرس التلاميذ العربية ويصطدمون بتغييرها في الجامعة (Getty)
+ الخط -
يبدو أن اللغة العربية كتب لها أن تعيش وضعا مأساويا في بلدان المغرب العربي، بدأ مع الاستعمار الغربي واستمر إلى ما بعده، حيث ما زالت هذه البلدان تعيش استعمارا من نوع آخر، اعتبره كثيرون من أشد أنواع الاستعمار على الإطلاق، ويتعلق الأمر بالاستعمار الفكري واللغوي؛ والذي يكرس اليوم تبعية عمياء للدول الاستعمارية وأيضا نوعا من الاحتقار والاستصغار للغة العربية الأم، في حين تربعت اللغة الفرنسية على العرش وغدت اللغة الأشد تداولا في جميع المجالات.
حقيقة يترجمها الواقع المعاش، ففي المغرب مثلا ومنذ ما يعرف بعهد الحماية (30 مارس/آذار 1912) ظلت اللغة الفرنسية اللغة المتداولة في جميع المصالح الإدارية والتعليمية، وبقيت على هذا الحال حتى مارس 1956 حين تم إعلان المغرب بلدا مستقلا بشكل رسمي.
وقد كان من الواجب بعد هذا الحدث المهم أن تعود المياه إلى مجاريها، ويتم الرجوع إلى اللغة العربية في التواصل الإداري والاقتصادي والتعليمي غير أن الواقع شيء آخر، فقد ظلت الفرنسية تحتكر جميع المجالات والتعاملات الإدارية.
بل حتى المواطن نفسه أضحى لا يميل لاستعمال لغته، بقدر ما يميل إلى استعمال الفرنسية كنوع من الاستصغار للغة الأم، بل وأصبحت الفرنسية اللغة التي تحتكرها الطبقة الأرستقراطية، بينما يتكلم بقية الشعب اللغة العربية.
سكان الأحياء العصرية والراقية وبعض المحسوبين على المثقفين يتعالون، بل ويخجلون، من الحديث بالعربية حتى لا ينعتوا بالرجعيين والمتأخرين، وكأنها لغة البؤس والجهل والفقر.

الخطة الاستعمارية
هذا الوضع ساهم فيه بشكل مباشر الاستعمار الفرنسي عندما ارتأى أن يحتفظ بحصة للغة العربية في برنامجه الدراسي، ينتدب لتأطيرها في كل مدرسة شيخ من شيوخ الكتاتيب القديمة، يتمثل فيه الجهل والتأخر والقسوة والغلطة، لتلتقط أذهان التلاميذ الصغار صورة سلبية عن مادة اللغة العربية والتي اقترنت في مخيلتهم بصورة الشيخ القاسي وهو يحمل عصاه متأهبا لضربهم، بينما تتركز في ذاكرتهم في نفس الوقت صورة أخرى مخالفة تماما للغة الفرنسية مقترنة دائما بصورة المدرس الفرنسي الجميل والأنيق، والمتحضر، الممتلئ شبابا وحيوية وفهما وإدراكا، وتقديرا للمسؤولية الملقاة على عاتقه.

انتبهت الحركة الوطنية آنذاك لهذه الخطة الاستعمارية والتي كانت تروم طمس كل معالم الحضارة، وحاولت عرقلة خط الاستعمار والتخلص منه عن طريق فتح عدد من المدارس يرتكز التعليم في بعضها على اللغة العربية وتاريخ الحضارة العربية والإسلامية، وفي بعضها الآخر على اللغتين العربية والفرنسية.
وقف الاستعمار لهذه المدارس الأهلية بالمرصاد وتفنن في الكيد ومطاردة المشرفين عليها وتعذيبهم والزج بهم في المعتقلات والسجون، وضع مثل هذا جعل الشعب أكثر تعلقا وإقبالا على هذه المدارس، مؤمنا بأهمية الرسالة التي تؤديها لمستقبل البلاد في الحفاظ على هويته ولغته وحضارته.

وضع مثل هذا كان من الممكن أن يزيح اللغة الفرنسية نهائيا لتفسح الطريق أمام غريمتها العربية بعد أن نال المغرب استقلاله، لكن العكس هو ما حدث وما زال يحصل إلى الآن؛ فالفرنسية تحتكر كل المجالات والمصالح، والمغاربة تخلوا طواعية عن مظهر من مظاهر سيادتهم القومية، وقبلوا أن يحتفظوا للمستعمر بمظهر من مظاهر النفوذ والسيطرة والاستعمار.
وأصبح المغاربة يقبلون على مدارس البعثة الفرنسية ويرسلون أبناءهم إليها، بل واختار معظم المثقفين منهم استعمالها في العمل والشارع، حتى أضحت لغة التواصل الرسمية في المصالح العمومية والإدارات بل ولم يعد بالإمكان إقناع هؤلاء أن اللغة العربية صالحة أيضا لمثل هكذا استعمالات.

الطلاب وتحديات اللغة
أكثر من هذا وجد بعض التلاميذ الذين أصبحوا اليوم أنفسهم بدون عمل، وهم يرون أقرانهم ممن تلقوا تعليمهم باللغة الفرنسية تفتح في وجوههم كل الأبواب، في حين تغلق في وجوههم هم، لا لذنب جنوه إلا لأنهم تلقوا تعليمهم باللغة العربية، فالشرط الأساسي للقبول في وظيفة ما هو إتقان الفرنسية وكأننا لسنا في دولة عربية بل في مستعمرة فرنسية.
فكيف يتلقى مواطن مغربي استدعاء من إحدى المصالح بلغة غير لغته، وكيف تتواصل الوزارات فيما بينها بلغة غير لغتها الرسمية، وكيف تقام ندوات ومحاضرات يؤطرها مغاربة ويحضرها مغاربة ولغة التواصل بينهم للأسف هي الفرنسية، وكيف يتم تنبيه ركاب القطار بمحطات الوقوف المقبلة باللغة الفرنسية؟

ومن الواضح أن بلدان المغرب العربي تعيش وضعا متشابها ومتماثلا على العديد من المستويات؛ فعلى المستوى القانوني والدستوري تعد اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة منذ الاستقلال الوطني، لكنها في المقابل ظلت على هامش التداول المجتمعي والإداري واستبعدت من فضاءات الشأن العام.
ففي الجزائر كما في المغرب العربية هي اللغة الرسمية وبها يدرس الطلاب في المرحلتين الابتدائية والثانوية، لكن في الجامعة أهم الفروع تدرس بالفرنسية مثل الطب والهندسة والإلكترونيك والعلوم الدقيقة بفروعها وعلوم الأرض والميكانيك، وأكثر من 60 %من فروع التعليم الجامعي تدرس بالفرنسية، فقط العلوم الإنسانية تدرس بالعربية.

المشكلة الكبرى أن التلاميذ يدرسون بالعربية ويحصلون على البكالوريا بالعربية في كل الفروع ويصطدمون بتغيير اللغة حين يصلون إلى المرحلة الجامعية، ونسبة عالية من الرسوب في الفروع التكنولوجية في الجامعة سببها عدم التأقلم مع لغة التعليم؛ حيث يقضي الطالب مدة 13 سنة من التلقي بالعربية ليصطدم في الجامعة بواقع مفرنس.
هذا بالنسبة للتعليم، أما في الإدارة فباستثناء الحالة المدنية ووثائق الهوية التي تستخرج باللغتين (العربية والفرنسية) حيث يكتب فيها الاسم وباقي المعلومات باللغتين معا، فإن كل الأمور الأخرى تتم بالفرنسية، وكل الإدارات الاقتصادية والمالية والشركات والبنوك تتعامل باللغة الفرنسية.

التعريب وبومدين
في بداية السبعينيات بدأت الجزائر في برنامج للتعريب مع حكومة الرئيس الراحل هواري بومدين لتصفية كل التركة الفرنسية، ووضع اللغة العربية في مكانها الطبيعي، وكان يفترض أن تحل الإنجليزية محل الفرنسية كلغة ثانية يستعان بها في شؤون التقنيات والبحوث العلمية، لكن المشوار لم يستمر حيث عدلت حكومة الشاذلي بن جديد عن ذلك البرنامج وأبقت على الفرنسية، وبعد مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للحكم انتعشت الفرنسية بشكل رهيب، وأصبح الرئيس نفسه يتحدث بالفرنسية بعد أن كان ممنوعا على المسؤولين مخاطبة الناس أو الإدلاء بتصريحات باللغة الفرنسية.
هذا الوضع أثر على السلوك العام للناس، ونسبة عالية من الجزائريين حتى وهم لا يحسنون الحديث بالفرنسية يقحمون كلمات وسط كلامهم العربي أو الأمازيغي، ونادرا ما تجد من يتكلم بالعربية دقائق دون أن يلجأ للاستعانة بكلمات فرنسية.

العربية في زمن الرقمنة
ويرى فؤاد بوعلي رئيس الائتلاف الوطني المغربي من أجل اللغة العربية، أن أهم التحديات التي تواجه اللغة العربية تتعلق بمتنها الداخلي الذي ينبغي تطويره وتأهيله لمواكبة زمن الحداثة والرقمنة، وأخرى تتعلق بمحيطها وجوارها اللغوي في علاقتها بالألسن الوطنية، وأخرى تتعلق بالعقبات التي يضعها خصوم الانتماء العربي الإسلامي من أجل تشتيت الأمة وتقزيم الولاءات.
ومن أجل الارتقاء بواقع العربية في التعليم يؤكد بوعلي أنه ينبغي الوعي بأن تعليم اللغة العربية لا يقل عن أزمة تعريب التعليم، سواء على مستوى المادة التعليمية أو على مستوى مناهج التدريس. ومن أبرز أعراض هذه الأزمة في مستوى التدريس: التركيز على الجوانب الصورية في تعليم الصرف والنحو وعدم النفاذ إلى مضامين النصوص العميقة والكشف عن بناها الكلية، وعدم الاهتمام بوجه الدلالة اللغوية والمعنى، وإهمال الجانب الوظيفي في استخدام اللغة وعدم تنمية المهارات اللغوية في الحياة العملية.
وبشكل عام يلخص بوعلي أزمة تدريس العربية في كون التعليم بها غير جذاب ومتقادم: "يتجلى هذا في عدم تجديد طرق التعلم والتعليم وتجديد كفايات المدرس تربويا وتأهليه باستمرار، وتوظيف أساليب تقليدية غير جذابة تعتمد التلقين والأساليب المتجاوزة التي لا تخلق التفاعل الضروري بين المادة والمدرس والتلميذ، ونصوص غير مواكبة للعصر فكريا وتقنيا، وندرة استعمال الأدوات الإلكترونية كالأقراص المدمجة التعليمية ومحطات العمل الحاسوبية، وغيرها".

على الصعيد العربي شهدت السنوات الأخيرة طفرة في بروز عدة مراكز مهتمة بالعربية نظرية وتطبيقا، مثل مركز الملك عبد الله بالسعودية والمجامع اللغوية التي بدأت تنشط في الدول العربية المختلفة. لكن في المغرب ما زال موضوع أكاديمية اللغة العربية مجرد حبر على ورق بعد مرور أكثر من عقد، مما يثبت أن الأمر يتعلق بمحاولات مستميتة لتحجيم دور العربية، وإبعادها عن مجال البحث العلمي لكي تظل مجرد لغة وجدانية يتغنى بها الشعراء ويخطب بها الوعاظ.
أما في الجزائر فهناك "اللجنة العليا للدفاع عن اللغة العربية" وهي منظمة غير حكومية، لكن توجهها السياسي أدخلها في متاهات وصراعات بين المثقفين، وأبعدها عن دورها في ترقية مكانة اللغة العربية في المجتمع وفي أجهزة الدولة.
ويؤكد بوعلي أن النموذج الفرنسي بدأ في التراجع والخفوت، خاصة مع اكتساح لغات القوة كالإنجليزية والصينية والإسبانية لمعاقل الفرنكفونية، بل وأثبتت الممارسة أن الفرنسية غدت عبئا ثقيلا على المغرب العربي إداريا وعلميا ومعرفيا، حيث عزلت شعوبه عن باقي العالم السائر في طريق النمو، إضافة إلى ضعفها العلمي وقناعة سادة القرار السياسي بجوهرية اللغة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى حالة اليقظة التي بدأت تظهر في المجتمع خاصة بعد أن اتخذت الفرنكفونية مسوحا صراعيا ضد كل مقومات الهوية الحضارية للشعب المغربي.

الدارجة المغربية بديلا آخر
أزمة أخرى شهدها المغرب في الآونة الأخيرة واعتبرها المتابعون مؤامرة جديدة لضرب اللغة العربية، وهي مذكرة خاصة بإصلاح التعليم، قدمها نور الدين عيوش رجل أعمال وناشط جمعوي مغربي، ورئيس أشهر وكالة إعلانات بالمغرب، وصاحب مؤسسة زاكورة للتربية، حيث دعا في مذكرته إلى اعتماد اللغة الدارجة المغربية في التعليم الأولي بدلا من اللغة العربية الفصحى، كما طالب بوضع حد للكتاتيب القرآنية، حيث شددت مذكرته على أن "التعليم الأولي لا يجب أن يبقى دينيا".
الأسباب التي غطت دعوة عيوش هذه كان أبرزها أن اللغة العربية الفصحى صعبة وعسيرة على الناشئة الذين انتقلوا لتوهم من بيئة تطغى فيها الدارجة ليصطدموا بلغة لا يفهمون منها شيئا ويصعب عليهم التواصل بها داخل الفصل الدراسي، معتبرا أن الدارجة هي الأقرب إليهم في التواصل من غيرها.
أثارت هذه المذكرة ضجة كبيرة في أوساط المهتمين والمدافعين عن اللغة العربية بالدرجة الأولى، حيث قوبلت بالرفض وجلبت لعيوش سيلا من الانتقاد ووصل إلى حد تخوينه والتشكيك في الأهداف الحقيقية وراء مذكرته، حيث اعتبرت الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية أن دعوة عيوش "جهل بمعتقدات الأمة وهويتها وحضارتها الضاربة في عمق التاريخ" وأن "اللغة العربية لغة خالدة، ومتطورة ومتجددة وعصرية، وليست المسؤولة عن تأخر المنظومة التعليمية بالمغرب" بل إن "احتلال التعليم المغربي لمراتب متأخرة في العالم راجع إلى السياسات المتعاقبة في البلاد التي أوقفت تدريس المواد العلمية باللغة العربية بقسم الباكالوريا، ولم تمض به إلى منتهاه بالجامعة المغربية".
وأضافت الجمعية أن مثل هذه "المذكرات الحاقدة على اللغة العربية، لا تزيد الشعب المغربي إلا تمسكا بلغته، ولا تزيد اللغة العربية إلا صمودا وثباتا وقوة، أمام هذه التصريحات غير المؤسسة، التي ترغب في زرع الفتنة والبلبلة، وتحقيرا للتربية في بلاد المغرب، التي تحتاج إلى إصلاح بإشراك الجميع من أجل تصحيح مسارها ووضع حد للتطفل في الحقل التربوي لأنها العمود الفقري لكل تنمية وتحضر وتمدن".
من جانبه دعا المفكر المغربي عبد الله العروي خلال مناظرة جمعته بعيوش في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 إلى ضرورة تبسيط اللغة العربية على مستوى النحو والإملاء، والاهتمام بتربية الطفل في مرحلة الروضة ما بين ثلاث إلى ست سنوات للنهوض بالتعليم في المغرب، مشددا على أن الدارجة المغربية "هي لغة محدودة المفاهيم وستطرح تحديات كبرى في التعليم كلما تقدم التلميذ أو الطالب في الدراسة".


المساهمون