القطب الشمالي أم شرق أوسط ثان؟

القطب الشمالي أم شرق أوسط ثان؟

14 يناير 2015
+ الخط -

يبدو أن العالم أصبح ضيّقاً بما لا يكفي لاستيعاب الصراعات الحالية، ما دفع القوى العظمى أن تبحث عن مناطق جديدة لتبسط عليها سيطرتها، ولاستباق القوى الأخرى. وفي إطار هذا رأينا أخيراً تحركات واهتمام متزايد تجاه القطب الشمالي أو "الشرق الأوسط الثاني"، بحسب وصف جريدة الـ"جارديان"، حيث نقلت إذاعة "صوت روسيا"، على موقعها الإلكتروني، عن مصدر في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، بأنه يجري التخطيط لنشر صواريخ مضادة للطائرات من طراز (إس-400 تريومف) في أرخبيل نوفايا زيمليا عام 2015.


لماذا القطب الشمالي؟

يقع المحيط المتجمّد الشمالي، موضع النزاع، في أقصى الشمال الجغرافي، حيث يحتل معظم مساحة الدائرة القطبية الشمالية التي يتماس محيطها مع حدود خمس دول متفرقة تتبع ثلاث قارات مختلفة، هي روسيا من آسيا، والنرويج والدانمارك من أوروبا، والولايات المتحدة وكندا من أميركا الشمالية، ويحكم علاقة هذه الدول "مجلس القطب الشمالي"، الهدف منه تنظيم أي مشكلة قد تطرأ على القارة المتجمدة الشمالية، ولكن قراراته لا تملك أية قوة إلزامية على أي من الدول الموجودة فيه. خمس من الدول المشاركة في هذه المنظّمة تنتمي إلى حلف الناتو، وهي كندا، الدانمارك، النرويج، الولايات المتحدة وأيسلندا.

ويتشكل هذا المحيط من رقعة جليدية غير منتظمة الشكل، تتمركز حول القطب الشمالي وتتفاوت مساحتها ومقدار اتساعها من عام لآخر ومن فصل لآخر، بسبب حالة الذوبان والتجمد التي تتعرض لها بفعل تغيّر درجة الحرارة عبر فصول السنة. وبطبيعة الحال، فإن الظروف المناخية السائدة في تلك المنطقة لا تسمح إلا بتكوّن أنماط محدودة من أشكال الحياة، سواء كانت بشرية أو برية.


وترجع أهمية القطب الشمالي لهذه الدول إلى:

1- إمكانية ظهور طرق ملاحية جديدة في المنطقة، وأهمها الممر الملاحي بين الشمال والغرب والذي يمثل أهمية استراتيجية كبيرة، إذ يتيح الربط بين آسيا وأوروبا من أقصر الطرق، حيث سيكون بديلاً لقناة السويس، هذا الممر لم يكن ممكناً استخدامه ملاحياً من قبل بسبب تجمده الدائم، لكن مساحات كبيرة من الجليد الكائن به بدأت في الاضمحلال والتلاشي بسبب الاحتباس الحراري، وبدرجة أصبح معها الإبحار خلاله ممكناً في المستقبل المنظور، ولهذا تتجنّب الدول الخمس عقد أي اتفاق ملزم في ما بينها بما يخص القطب الشمالي، فهي لا تريد حصر نفسها باتفاق مماثل قد يؤدي إلى تعقيدات في ما يتعلق بتقسيم الجرف القاري.

2- تقدّر نسبة النفط الموجود في أعماق الجليد بـ17 في المئة من الاحتياطي العالمي، ونسبة الغاز الطبيعي بـ30 في المئة، مجمّدة تحت برد القطب، بحسب الـ"جارديان"، وتنتظر مَن يستثمرها. إن هذه الموارد الطبيعية بمفردها هي سبب كافٍ لروسيا، والدول المجاورة الأخرى للقطب، وحتّى للدول غير المجاورة، للسعي إلى وضع يدها عليه حتى تنال قسطاً من هذه الثروات المهمّة.

وكان تقرير صدر عن دائرة المسح الجيولوجي الأميركية في عام 2000، رجّح أن القطب الشمالي يحوي 25 في المئة من الاحتياطيات العالمية غير المكتشفة من النفط. وفي سبتمبر/ أيلول 2007، أعلنت الدائرة ذاتها أن إجمالي احتياطيات النفط في غرب جرينلاند توازي 31.4 مليار برميل، يعتقد أن معظمها في بحر البارينتس.

أما مراكز الدراسات في موسكو، فقد قدّرت أن الجرف القاري للمحيط المتجمد الشمالي يضم حوالي ربع احتياطيات بحار العالم من موارد الطاقة. وتؤكد تقارير أخرى أن احتياطي هذه المنطقة وحده يبلغ 90 مليار برميل، وتشير التقديرات الروسية إلى تركّز ما بين 70 أو 80% من كل احتياطيات منطقة المتجمد الشمالي من النفط والغاز في منطقة الجرف البحري الروسي.


محاولات للسيطرة

منذ 12 عاماً، تطالب كندا بالسيادة على المناطق القطبية الشمالية، ولهذا أرسلت كندا في 2014 كاسحتي جليد إلى منطقة القطب الشمالي لمسح المنطقة جغرافياً، في خطوة قد تصعّد الصراع على هذه المنطقة بين كندا وروسيا والدول الأخرى. إذ يستمر الصراع على الاستثمار في المنطقة القطبية الشمالية بين كندا وروسيا، ويدعي كل من البلدين السيادة على هذه المنطقة. وقد قدمت كندا في ديسمبر/ كانون الأول 2013 طلباً للجنة الأمم المتحدة المختصة بترسيم الحدود الدولية للنظر في القضية.

ويشمل الطلب الكندي ضم منطقة بمساحة 1.2 مليون كيلومتر مربع، من ضمنها منطقة القطب الشمالي. لكن كندا هي ليست الوحيدة، إذ قدمت روسيا طلباً مماثلاً بضم القطب إلى أراضيها، وقد تتبعهما الدنمارك التي تطالب هي الأخرى بالمنطقة، خاصة أن القطب الشمالي يقع بالقرب من الجرف القاري ومن جزيرة غرينلاند الدنماركية، حسبما نقل الموقع لالكتروني لمجلة "دير شبيغل" الألمانية.

ونقل الموقع أن الحدود الدولية البحرية، حسب قرارات الأمم المتحدة، تمتد لمسافة 200 ميل بحري، وتأخذ لجنة الأمم المتحدة المختصة بترسيم الحدود الدولية على عاتقها تفسير هذه المساحة وترسيمها. وبما يتعلق بالمنطقة القطبية الشمالية، قد تثير مسألة الحدود البحرية الممتدة لمئتي ميل بحري نزاعات دولية بين الدنمارك وكندا وروسيا.

نشاط روسي متزايد

بدأ النشاط الروسي عندما رفرف علم روسيا عام 2007 من قعر غواصة روسية على مقربة من قمة لومونوسوف في القطب الشمالي، التي يعتبرها الروس امتداداً للجرف القاري التابع للأراضي الروسية، في سياق بعثة علمية لاستكشاف هذه المنطقة الغامضة من العالم. اعتبرت الدول الأربع الأخرى المحاذية للقطب (الولايات المتحدة، النروج، كندا، الدانمارك)، هذه الخطوة الروسية بمثابة استعراض، فيما أكّد الروس أنّ أهداف البعثة علمية بحتة، بهدف استكشاف ما تحمله طبيعة هذا الاقليم، ومن وقتها تزايد النشاط الروسي في القطب الشمالي بشكل ملحوظ، حيث تعتبر روسيا الدولة الأولى الأكثر استكشافاً ونشاطاً في القطب الشمالي.

وأرسلت روسيا في 6 سبتمبر 2014، ست سفن حربية إلى القطب الشمالي لإنشاء قاعدة عسكرية لأسطولها البحري هناك، وسيتم بناء القاعدة، بحسب وكالة "انترفاكس"، في جزر سيبيريا الجديدة، ويعتبر هذا الإبحار الثالث للأسطول خلال أقل من ثلاثة أعوام. ففي عام 2012، ولأول مرة في تاريخ البحرية الروسية، تمكنت قوات المشاة من القيام بعملية إنزال في المنطقة وسط تضاريس صعبة. وعام 2013، تمكن عدد من سفن الأسطول بقيادة الطراد النووي "بطرس الأكبر"، من نقل تقنيات ومعدات إلى جزر سيبيريا الجديدة بهدف إعادة بناء مجمع القيادة الجوية، "تيمب".

وتسعى موسكو إلى تعزيز وجودها العسكري في القطب الشمالي. ففي 2013، أمر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الجيش بالعودة الى القاعدة الواقعة إلى أقصى الطرف الشمالي من الجزر السيبيرية الجديدة المهجورة منذ العام 1993.

وقالت إذاعة "صوت روسيا"، نقلاً عن مصدر عسكري روسي، منذ أيام، أنه يتم أيضاً التخطيط لوضع بطارية من راجمات الصواريخ والقذائف المضادة للطائرات "بانتسير-اس1" في أحد المطارات في منطقة القطب الشمالي الروسية. وأشار المصدر إلى أن عام 2015 سيشهد انتشار وحدات من القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي في منطقة القطب الشمالي الروسية، وستتبع هذه القوات، بالإضافة إلى وحدات من القوات البحرية والجوية، لإمرة القيادة الاستراتيجية الشمالية التي تم تشكيلها في العام الماضي وباشرت مهمتها لحماية منطقة القطب الشمالي ووسط روسيا ضد أي هجوم محتمل يأتي من الشمال.

تمتلك روسيا عدداً أكبر من كاسحات الجليد التي تستخدم على نطاق واسع، وضمن كاسحات الجليد هذه 4 كاسحات نووية وعدد كبير من كاسحات الجليد العاملة بالوقود التقليدي.


وجود أميركي ضعيف

يتم الآن كشف النقاب عن الاستراتيجية الجديدة مع بدء الولايات المتحدة استعداداتها لتولي الرئاسة الدورية لمنتدى الإدارة الإقليمية الرئيسية المعروف باسم مجلس القطب الشمالي، ومن المقرر أن تبدأ ممارستها لهذا المنصب في عام 2015، وهذا سوف يوفر لواشنطن دوراً قيادياً جديداً فريداً من نوعه بشأن قضايا القطب الشمالي.

وتقول وزارة الدفاع الأميركية إنها ستسعى لتوسيع فهمها لكل من بيئة القطب الشمالي، ووجودها في المنطقة، وفي الوقت نفسه تعزيز التعاون أيضاً حول مجموعة من القضايا.

وكان الرئيس أوباما قد كشف النقاب، في مايو/ أيار الماضي، عن استراتيجية بلاده الجديدة بشأن المنطقة القطبية الشمالية، وهي الاستراتيجية التي تقع في 13 صفحة تؤكد أن الولايات المتحدة ستعمل مع الدول الأخرى على حماية البيئة الهشة في المنطقة وإبقائها خالية من الصراعات، وفي الوقت نفسه لا تترك الباب على مصراعيه مفتوحاً للدول الأخرى، مثل روسيا والصين وكندا والنرويج، لرسم خطط بدء عمليات التنقيب عن الغاز والنفط أو لإجراء تدريبات عسكرية بالمنطقة.


انقسام الناتو

وفي داخل الناتو، يرى حلفاء أميركا المشهد بشكل مختلف، فالنرويج هي الرائدة في تعزيز دور الناتو في القطب الشمالي، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك مقرات عسكرية دائمة فوق الدائرة القطبية الشمالية. وبالرغم من مشاركات النرويج الهامة في حروب الناتو، إلا أنها ما زالت تتحرك في القطب الشمالي من منطلق الأمن فقط، وقد قام النرويجيون بالاستثمار بشكل كبير في القدرات الدفاعية في القطب الشمالي، وتريد النرويج من الناتو أن يلعب دوراً أهم من دوره الحالي في القطب الشمالي، وهذا بعكس كندا التي أعلنت بشكل واضح عن عدم رغبتها من الناتو لعب دور أكبر في القطب الشمالي من دوره الحالي، ويرجع هذا إلى قلق كندا من أن يزداد نفوذ دول الناتو التي لا تقع على القطب الشمالي هناك.

وكتحالف قائم على الأمن، فإن الناتو ملتزم بالدفاع عن السلامة الإقليمية للدول الأعضاء، بما فيها منطقة القطب الشمالي، وقد شارك نحو 16 ألف جندي من 16 دولة في تدريبات لحلف الناتو في مقاطعة نورلان، شمال النرويج، في 2014، وذلك لاختبار جاهزيتهم للقتال براً وبحراً وجواً في ظروف شتوية قاسية.


هل سيتضرر العرب؟

لا جدال مثلاً في أن ظهور طرق ملاحية جديدة في منطقة القطب الشمالي، وبخاصة ممر الشمال الغربي الواصل بين آسيا وأوروبا، سيحرم قناة السويس وبعض الموانئ العربية في البحر الأحمر من بعض العوائد المادية والأرباح، بسبب تحول جزء كبير من قوافل الشمال البحرية عن استخدام القناة في العبور إلى آسيا والمحيط الهندي عبر البحر الأحمر، حيث إن الرحلة بين أوروبا وآسيا عن طريق الإبحار في القطب الشمالي تستغرق 38 يوماً مقارنة بالرحلة التي تتم عن طريق قناة السويس وتستغرق 48 يوماً. وهذا بدوره سيتسبب في بعض الخسائر الاقتصادية والتجارية لبعض الدول العربية، خاصة مصر واليمن والسعودية.

من الأضرار التي قد تتعرض لها المنطقة أيضاً، وإن كانت هذه المرة بشكل غير مباشر ومن وجهة بيئية بحتة وضمن إطار عالمي، ما يمكن أن يساهم به تزايد النشاط البشري والصناعي المتوقع في منطقة نقية وبكر تماماً مثل منطقة القطب الشمالي، في استمرار وتنامي ظاهرة الانحباس الحراري، وما يعنيه ذلك من استمرار ذوبان جليد الشمال وتزايد ارتفاع مستوى سطح البحر، بما يهدد الأجزاء المنخفضة من سواحلنا العربية وسواحل أخرى عالمية بخطر الغرق، وهو ما سيترجم حينها إلى خسائر اقتصادية وتنموية كبيرة.


هل نشهد نزاعاً عسكرياً؟

لا يستبعد بعض الخبراء أن تصبح منطقة المحيط المتجمد الشمالي حلبة مستقبلية لتصادم حاد بين مصالح استراتيجية لدول عدة، على رأسها روسيا والولايات المتحدة، وهذا ما دفع بعض المراقبين الروس والغربيين إلى عدم استبعاد تطور الخلاف حول ثروات القطب المتجمد الشمالي إلى صراع مسلح "غير نووي"، استناداً إلى تحذيرات روسيا المتكرره للدول الأخرى المطلة على القطب الشمالي من مغبّة منعها من الوصول إلى مكامن الثروات الطبيعية، واستناداً أيضاً إلى نشاط الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في مواجهة المصالح الروسية في تلك المنطقة.

إلا أن البعض الآخر يستبعد اندلاع حرب على المدى القريب، وهذا لأسباب عدة، أهمها أن الأمر محكوم بقوانين دولية وأطر قانونية من شأنها المساهمة في الوصول إلى تسوية سلمية ومرضية لكل الأطراف، لذا فإن خروج طرف ما على اتباع هذه الأطر والالتزام بها يمكن رده عن طريق اللجوء إلى التحكيم الدولي، وهو، وإن طال أمده، كفيل بالوصول بالقضية إلى بر الأمان، دون اللجوء إلى التناحر أو الاقتتال.

المساهمون