حاجة الفنّ إلى وسائطه

حاجة الفنّ إلى وسائطه

08 ديسمبر 2014
+ الخط -
صحيحٌ أن الأمر ضربٌ من النرجسية، غير أنها نرجسيةٌ شاهدة على ذاتها، ساعيةٌ للانفصال عن جذورِها الغارقة في أغوارِ الذات واللا وعي. يصعب أن نكتب عن ذاتنا إلا بشكل انعكاسي. وكلّ انعكاس تأمّل في الصورة المقلوبة في المرآة، وكلّ رئِيّ دعوة للانفصال عن النرجسية أيضًا لأنها تمكّن من ضبط صورة لما نحن عليه. 

في ندوة دولية عن سياق الفنّ المعاصر في حوض المتوسط، صعقتُ وأنا أنصتُ لأحد التشكيليين يقول: "لسنا بحاجة إلى النقد والنقّاد، فالعمل الفنّي يفصح عن تأويلاته وحده. وهي تأويلات غير محدودة". 

هذه العدمية التبسيطية (وما أبعدها عن عدمية نيتشه)، وإذ تمنح البصري القدرة على تأويل ذاته بذاته، فإنها تمنحه سلطة الانفتاح اللا متناهي وغير القابل للضبط. والحال أن العمل الفنّي، بطابعه الصوري / البصري، مهما كانتْ درجة ذكائه التأويلي، يظلّ في حاجةٍ إلى تدخّل اللغة لممارسة التأويل عليه. إذ إن للغة القدرة على التملّك التصوري - المفهومي للصورة أكثر من الصورة نفسها. فالعمل الفنّي يمارس تأويل العالم، بترجمته إلى صور وأشكال وألوان وتعبيرات بصرية.

وكلّ عمل فنّي، هو بشكلٍ أو بآخر، تأويلٌ أو نقدٌ لما سبقه ولما يواكبه من أعمال فنّية. فكلّما انزاح عن المألوف والمُتداول وسلك لنفسه مساربَ جديدة، كلّما كانت عمليته التأويليّة أخصب، وكان من الصعب إدراكه من قِبل المحيطيْن الفنّي والنقدي.

إذ كلّما كان العمل الفني جديدًا ومبتكرًا، كلّما حرّك العناصر الجامدة والمتكلّسة والرجعية الارتدادية في التصوّر النقدي السائد. ليست الممارسة النقدية مطالبة فقط بمتابعة العمل الفنّي، بل بإدراك كنْه توجهه ووجهته، ومطالبة بالسّعي إلى الإمساك بمجملِ دلالاته، بل تجاوز ذلك إلى منحه "معانيَ إضافية"، كما يسمّيها الجرجاني.

النقد، كما يدعو إلى ذلك هايدغر، لا يكون نقدًا إذا لم يمنح لموضوع قراءته من معناه، أي إن لم يكن مصدرًا للقاح والتلاقح الذي يخصّب بدوره العمل الفنّي بالتصوّرات والتأويلات التي يستمدّها من العلاقة معه. 

ليس النقد متابعةً للعمل الفنّي ولا ظلًّا له بل، وهو في سعيه ليكون إضافةً للعمل الفنّي بلغة غير لغته، يطمح أوّل الأمر أن يكون نِدًّا لهذا العمل، قادرًا على مجاورته ومحاورته، باحثًا فيه عن ممكنات مفتوحة للتفاعل والتواصل.

إنه وسيط من ضمن وسائط أخرى بل أقدم الوسائط على الإطلاق، وهو الذي يمنح العمل الفنّي قيمته الرمزية والتداولية. فالكتابة النقدية تصنع قيمة العمل الفنّي حين تُموْقعه في تاريخ الفنّ المحلي والعالمي. وهي بذلك تساهم في كتابة تاريخ الفنّ، وتمكّن من استكشاف الفنانين المهمّشين وإعادة الاعتبار للمغمورين منهم. وفي صمتها عن بعض الفنانين المتطاولين على الشأن الفنّي أو المضخمين، أو إعادتها النظر في الهالة التي تمنح لهم، فإنها تساهم في الموازنة النقدية بين المكوّنات الثقافية، وتمارس ضربًا من النضال التاريخي ضدّ العناصر التي تعيق بشكل أو بآخر مرئية التجارب الواعدة. 

وفي ذلك تتقاطع مهمّة الناقد والقَيِّم، من حيث قدرتهما معًا على الموازنة بين النظرة الشمولية السياقية التي تؤطّر الممارسة الفنّية الفردية، والنظرة الثاقبة المتعقبة لتحوّلات الممارسة الفنّية وعناصرها النافرة والخصبة. وغالبًا ما تجتمع مهمّة الكتابة ومهمّة تنظيم المعارض وتصوّرها في شخص واحد؛ كأن يتحوّل الناقد إلى قيّم (وهو الأمر الأكثر احتمالًا) والقيّم إلى ناقد. 

يراقب القيّم الحركة الفنّية بعيون صقر. هو كالمدرب الكروي يبحث عن دُرره الفنّية بين الشباب والمبتدئين، ليقتلعها من المجهول ويسير بها نحو المرئي. حين ينظّم المعارض الاستعادية أو ذات الموضوع الواحد، فإنه يظهر موهبته في تشكيل رؤيةٍ جديدةٍ انطلاقًا من هلامية المنظر الفنًي العام. القيّم عضد المتاحف وأروقة العرض، وجوهر وجودها.

فتراه في المتحف يجدّد الرؤية إلى الفراغ وإلى المجموعة الفنّية بما يغنيها من تجارب تأتيها من الخارج وأحيانًا من أمكنة نائية. لكأنّه في عملية الإخصاب هذه، يفتح المؤسسات الوسيطة على ممكناتها المستقبلية ويجعلها تدخل في حوارٍ مع الآخر. 

ورغم أن تاريخ الحركة التشكيلية في العالم العربي، أفرز منذ أواخر القرن التاسع عشر العديد من الأسماء الفنّية التي يمكن عدّها أعلامًا في تاريخ الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، إلا أنه قلَّما كشف لنا عن ناقد أو مؤرخ للفنً بالقوة نفسها.

فأغلب "النقّاد" الذين يمكن أن يُعتد بكتابتهم، جاؤوا من الأدب والفكر؛ جبرا إبراهيم جبرا وعبد الكبير الخطيبي. هم كتّاب وشعراء يكتبون عن الفنّ، ويعدّون أنفسهم مواكبين لبعض الفنانين، بحيث غالبًا ما تدخل تلك الإشراقات ضمن تجربتهم الكتابية. 

أما النقّاد المتخصصون فهم قلّة قليلة، بعضهم آتٍ من الفلسفة والأدب؛ عفيف بهنسي، وموليم العروسي، وفاروق يوسف، وشربل داغر، وبعضهم الآخر آتٍ من الممارسة التشكيلية وتاريخ الفنّ كأسعد عرابي، ومها سلطان.

هم قلّة قليلة مقابل ذلك العدد الهائل من الفنّانين. زد على هذا، غياب المجلات الفنّية المتخصّصة والمنابر المكرسة للفنون البصرية، فضلًا عن عدم ترسّخ الكتابة النقدية في الحقل الثقافي، بحيث نادرًا ما نجد كتابًا في نقد الفنون، يصنع الحدث الثقافي الذي قد تصنعه رواية ما أو معرض ما. ومقابل هذه القلّة، ثمة نُدرة رهيبة في مجال القيّمين المتخصّصين. بسبب جدّة هذه الوسيط في حقلنا الثقافي الفنّي.

كان أصحاب المعارض وبعض النقّاد يقومون بهذا الدور، ثمّ صرنا في السنوات الأخيرة نرى بعض الأسماء العربية تمارس دور القيّم في العواصم الأوروبية والعربية، وتنتقل بنشاطها إلى العالم العربي.


المساهمون