من الصنعة إلى الفنّ، ومن التأمل إلى الحسّي

من الصنعة إلى الفنّ، ومن التأمل إلى الحسّي

30 ديسمبر 2014
+ الخط -
صحيح أن الأصمعيات والمفضليات تركت لنا من أشعار المجهولين ما يضاهي وما قد يجاوز تعبيرًا العديد من قصائد الشعراء الفطاحل، لكن ذلك كان أمرًا ينتمي إلى زمن صار غابرًا. كان الشعر قريحة تستوحيها اللغة من غمرة الحسّ والإدراك، ثم صار دُربةً وعلمًا يرتكز على قوّة القريحة، فصار بلاغةً وتعبيرًا.
وهكذا ظلّ العمل التقني واللغوي متواشجين في منظومة الثقافة العربية، تعبيرًا عن ذلك التلازم الأنثربولوجي التليد الذي أكّده المفكر لوروا غوران: "الإنسان يصنع الأدوات المحسوبة والرموز...، وهي الصناعات التي تحيل في الدماغ البشري للتجهيز الأساسي نفسه... اللغة والأداة... تعبير عن الخاصية نفسها للإنسان".
ربما كان هذا الترابط ذو الطابع المعقول هو ما جعل - جزئيًا على الأقلّ - من الخط، الصنعة الحرفية والفنية الأكثر سموًا، إلى حدّ أن صناعة الخطّ صارت النموذج الأسمى للصنائع الفنية. ومعلوم أن الخطّ لم يأخذ قيمته فقط من قداسة اللغة العربية في ارتباطها بالقرآن، بل أيضًا من المنظومة المتخيّلة التي حيكت حول كلماتها، وبالأخص حول حروفها ومن الرمزية الكونية والاجتماعية والروحانية الصوفية التي عُبئت بها حروفها أيضًا.
أما الصنائع الفنية من خط وزخرفة فقد صارت سواء في المعمار أو في الكتاب، مجالًا لإثبات الطابع الجمالي للفضاء الاستعمالي. الفنّ العربي الكلاسيكي إذن في مجمله، ذو علاقة مزدوجة وصميمة ببعدين: البعد الاستعمالي الفضائي والبعد المقدّس والروحاني.
حين ابتكر إيمانويل كانط الجماليات (الإستطيقا) أدخل "الطابع غير النفعي للعمل الفنّي"، إذ الذوق، كما الحكم الجمالي، لا ينطلق إلا من انعدام الطابع النفعي. كيف للعرب أو الفرس أو الأتراك أن يستسيغوا هذا الأمر، وكلّ الفنون لديهم تندرج في الاستعمالي أو المقدّس؟ إذ كيف يمكن لرسم ما أو زخرفة ما، ألا تندرج في منفعة ما، حتّى لو كانت تشخيص حكاية ما، كما هو الأمر في المنمنمة؟
بيد أن كانط لم يفكر يومًا في أن ينزع عن الفنّ طابعه كرسالة ومعنى: "شيئان ما يفتآن يثيران الغبطة والبهجة في نفسي، السماء المرصّعة بالنجوم فوقي والنداء الواجب في داخلي". كان الفنّ لديه كلّ ما هو جميل في الطبيعة، إذ إنه فيلسوف لم يكن يرتاد المتحف كثيرًا ولا يعرف أمور الإبداع التشكيلي.
ولم يخطئ فريدريك نيتشه حين أكد أن التاريخ ليس خطًا متواتر التقدّم، بل هو ينبني على عوْدٍ أبدي، يعود فيه الحاضر للماضي ويعود الماضي للحاضر بشكل لولبي يكاد يكون دائريًا. ولم يخطئ بعده مارتن هايدغر حين عدّ أن جهر الفنّ هو الشيء، ليس المادّة فقط بل القوّة المحسوسة التي تجعل من العمل الفنّي حضورًا.
يخطئ الكثيرون اليوم إذ يعيشون على فكرة صارت هشّة؛ أن الفنّ هو ما نراه في الأروقة والمتاحف، بل حتّى ما بدأنا نلحظه من فنّ معاصر ينبني على المنشأة الفنية في الفضاء أو على المنجزات أو على الفيديو. فما إن بدأنا نتحدّث عن فنّ معاصر حتّى وجدنا أنفسنا ندخل تجربةً أخرى، خرجت من معطف الفنّ الحديث والمعاصر معًا، خاصّةً مع تحوّل العلاقة الاستهلاكية من علاقة نفعية إلى علاقة جمالية أيضًا.
لقد تسلَّل الديزاين إلى قلب الفنّ والحياة اليومية في الآن نفسه. فلم تعد الأشياء الاستعمالية وحدها التي تخضع للتصميم، بل أيضًا البيئات والمناظر الطبيعية والأماكن العمومية ووسائل النقل العمومية والمراكز التجارية، ناهيك عن السيارات وغيرها.
وغدا الديزاين، من غير أن نحسّ بذلك، الفن بامتياز، في كليته وشموليته، فلقد صار مثله مثل المعمار في العصر الكلاسيكي العربي الإسلامي، موطنًا لتداخل الفنون كلّها، وتفاعلها وتقاطعها في توتر ونزاع مرير تارة، وفي تصالح وتآلف تارة أخرى. الديزايْنر (المصمم الفني) صار نجم الفنون الراهنة، لأنه أعاد للواجهة ما كاد الفنّ الحديث يطويه ويرميه في عدم النسيان، أعني الفنون التقليدية. فالمصمم استعاد الزخرفي، ونزع عنه طابعه التزويقي الديكوري، واستعاد صنعة (أي احترافية) ودقّة هذه الصنائع.
لا أدري كيف استطاع المصمم أن يقدم حلولا مقترحة مشكلات كادت تستعصي على الفن الحديث والمعاصر، منها مسألة المحلية، والذاكرة والهوية. كما أنه باستعماله المكثف للسينوغرافيات الجديدة التي توفرها تكنولوجيا الحاسوب بات يصالح بين المحسوس المفترض، وبين الواقع كما هو والواقع المزيد والمطعَّم بتكوينات بصرية وعملية جديدة. فالديزاين الغرافي صار مصدرا للديزاين عمومًا، يعيد تشكيله ويفتحه نحو المستقبل.
دورة التاريخ هذه، تُخرج الفنّ مرّة أخرى من تمركزه حول الجماليات الغربية، لتزجَّ به في عمق التجارب المحلية. لقد أفُل نجم التأمل الجمالي والتذوق المبني على اختيارات ذاتية، لندخل عصر الإحساس الجمالي. إننا إذن ننتقل من الإستطيقا إلى الأسطيزيس، أي من الجماليات إلى الحسّ الجمالي. هذه الطفرة مهمة جدًا، لأنها تشكّل انزياحًا عن كلّ ما يشكّل أساس العمل الفني الحديث: الفردية والذاتية والحيّز الفضائي المحدود وغيرها من المحددات.
ونحن نثير هذه الأسئلة، ندرك بعمق أننا لا نزال بعيدين عن تمثّل الفرص والحظوظ والمنفتحات التي تمنحها للفنّ العربي هذه الحركية الجديدة. بيد أن استشراف الأفق أمر يبدو لنا كفيلًا بأن يفكّك العديد من المناطق المتجمدة أو المتكلّسة في وعينا ولا وعينا البصري. الصنائع إذن مصير الفن وموْئله بعد أن كانت مصدره ومنطلقه. وقد بدأنا نرى في العالم العربي مساعي متواصلة لمنح هذا الفن "الجديد-القديم" بعضا من الحظوة التي صار يعيشها في باقي العالم. وليس نزوع العديد من الفنانين الشبّاب في الوطن العربي إلى الاشتغال على الفضاءات العمومية في أعمالهم الفنّية، سوى مسعى تركيبي يلامس الديزاين من غير أن يسير به إلى أقصى حدوده. فالديزاين أكثر أشكال الممارسة الفنية المعاصرة حاجة إلى حرية وديمقراطية.

المساهمون