مفارقات التعليم في أميركا

مفارقات التعليم في أميركا

30 ديسمبر 2014
مفارقات بين التعليم ماقبل الجامعي والجامعي (Getty)
+ الخط -
تحتل عشرات الجامعات الأميركية أفضل المراتب عالمياً في مستوى التعليم والبحث والابتكار، بينما يحتل طلاب المدارس الثانوية مراتب متأخرة، بالنسبة لأقرانهم البالغين من العمر 15 عاماً في الدول الأوروبية، الاسكندنافية خاصة، أو اليابانية والصينية. وما قد يبدو تناقضاً للوهلة الأولى، ما هو إلا انعكاس لتشعب وتعقيد قياس مستوى التعليم في أي دولة وخاصة الولايات المتحدة، الذي يتفاوت بحسب الولايات والمناطق داخل كل ولاية. إضافة إلى القوانين والميزانيات المرصودة للتعليم، كما إلى نوعية المدارس (خاصة أو عامة) دون أن ينفي ذلك وجود مدارس عامة تتبوأ مناصب عالية على مستوى التحصيل.

والسؤال هو ما الذي يفسّر هذا التفاوت بين مستوى النظام الجامعي، الذي يجتذب مئات الآلاف من الدارسين من جميع أنحاء العالم، وبين نظام التعليم المدرسي الذي يعاني من مشاكل كثيرة؟
نظام التعليم المدرسي بين الابتكار والبيروقراطية>

أدرجت دراسة نشرتها "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" (OECD) عام 2012، مستوى معدل تعليم الطلاب الأميركيين من جيل الـ 15عاماً، في مراتب متدنية في ثلاثة مواضيع تتناولها الدراسة، وهي الرياضيات والقراءة والعلوم. ويصل معدل تحصيلهم كالتالي: المرتبة الـ 26 في الرياضيات والمرتبة الـ 17 في القراءة والمرتبة الـ 21 في العلوم، وذلك من بين 34 دولة. كما يظهر البرنامج أن الولايات المتحدة لم تحرز أي تقدم ملموس في ما يتعلق بالنتائج منذ المرة الأولى التي بدأ اعتماد هذه الدراسات فيها عام 2000.

وتشهد مشاريع إصلاح التعليم في الولايات المتحدة، منذ ثلاثة عقود، الكثير من الجدل. ويشير مارك تاكر، رئيس المركز الوطني للتعليم والاقتصاد في واشنطن، أن الولايات المتحدة شهدت تراجعاً حاداً في ترتيب تصنيفات دراسات المتوسط العالمي للتعليم لطلاب المدارس البالغين من العمر 15 عاماً. ويرى تاكر، بحسب مقالات عديدة نشرها حول الموضوع، أن النظام السياسي واللامركزية في نظام التعليم للمدارس العامة، والتي تشكل حوالى 88 بالمئة من نسبة المدارس في البلاد، هي أحد الأسباب الرئيسية للتراجع. إضافة إلى الفروقات الاقتصادية التي تتجلى في أماكن السكن وتنعكس بذلك على مستوى التعليم في المدارس العامة، حيث يتم تمويل المدارس بشكل رئيسي من الضرائب المفروضة على سكان كل منطقة، والتي تنقسم إلى ضرائب المدينة والولاية والحكومة الفدرالية، وتختلف باختلاف مكان السكن مما ينعكس على الخدمات المقدمة كذلك. 

الابتكار كمفتاح للتقدم في التربية والتعليم
هذا ونشرت "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" (OECD) دراسة أخرى تحاول رصد وقياس التطور في التعليم والتشجيع على الإبداع والابتكار. وشملت الدراسة، التي استمرت على مدار ثماني سنوات، 2003 إلى 2011، عشرين دولة صناعية وناشئة بما فيها الولايات المتحدة. والمفاجئ في نتائج هذه الدراسة هو أن الولايات المتحدة تبرز كواحدة من أفضل الدول على مستوى الابتكارات في أساليب التربية والتعليم في المدارس. وهو يناقض ما ذكرناه حول مستوى الطلاب المتدني. ويعزو المختصون السبب إلى إشكالية التطبيق والهوس بالامتحانات الموحدة من جهة، والتي تركز على النتائج والتحصيل فحسب، وإلى "تفكك" نظام التعليم وتأثره بالبيروقراطية السياسية وبيروقراطية الولايات و بالعوامل الاقتصادية.

أما المجالات الخمسة التي ترى الدراسة أن الولايات المتحدة كانت مبتكرة في تحديثها، وأنها انتقلت إلى دول عديدة، منها دول أوربية وآسيوية قامت بالاستفادة منها وتطبيقها بشكل أفضل، فهي: 
أولاً: العمل في الصفوف الابتدائية على تعليم القراءة بشكل فردي يتلاءم وحاجات الطلاب وخلفياتهم.
ثانياً: استخدام تقنيات الشرح في الأجوبة لموضوع الرياضيات بدل حفظ وبصم النظريات. ثالثاً: استخدام أمثلة مستوحاة من الحياة اليومية ومحيط الطلاب في الشرح والتعليم.
رابعاً: الاعتماد، ومنذ المرحلة الابتدائية، على تحليل النصوص وتوجيه الطلاب للتفكير الابداعي والابتكار في السياسة والممارسات التنظيمية.
خامساً: الاعتماد على تقنيات المشاهدة والتجريب في موضوع العلوم أكثر من الشرح والتلقين في المرحلة الثانوية.

750ألف طالب أجنبي
من ناحية أخرى تعد الولايات المتحدة قبلة لأكثر من 750 ألف طالب أجنبي يتلقون التعليم ضمن جامعاتها. وتحاول الجامعات الأميركية إغراء أفضل الباحثين في العالم بعدة طرق، للبقاء بها وتكملة بحوثهم، منها المجالات التي تتيحها أمامهم بغية البحث والأموال التي ترصدها لذلك، إضافة إلى الحرية في البحث والتطور في مجالهم.

كما تفتح الجامعات الأميركية والخاصة على وجه التحديد إمكانية الدراسة بها عن طريق المنح الرياضية وغيرها من المنح، مما يتيح الإمكانيات أمام الطلبة الفقراء للالتحاق بها، شريطة أن يكون هؤلاء متفوقين، الأمر الذي يعني أن عدداً قليلاً نسبياً من هؤلاء سيلتحق بها، إذا لم يتلقوا تعليماً فوق المتوسط في المدارس العامة. 

وتشير آخر دراسة نشرتها مجلة "Times Higher Education" للعام 2014- 2015، المتخصصة، أن ثماني جامعات أميركية هي ضمن قائمة أفضل عشر جامعات في العالم. ويضع البحث في قائمته 46 جامعة أميركية من بين أفضل مئة جامعة في العالم. ولا يقتصر الأمر على الجامعات الأميركية الخاصة، مثل هارفرد التي تحتل المرتبة الأولى عالمياً، ولكن هناك جامعات مثل بركلي وهي جامعة حكومية تحتل المرتبة الرابعة عالمياً. وعند النظر إلى نسبة الابتكارات أو الجوائز كجائزة نوبل للطب والكيمياء وعلم الأحياء، فلا يمر عام واحد دون أن يكون عدد لا بأس به من الحاصلين على هذه الجوائز هم علماء من جامعات أميركية مختلفة. وتعتمد هذه الجامعات الخاصة بالطبع على ميزانيات ضخمة تصل أحياناً إلى بلايين الدولارات (ميزانية هارفارد، مثلاً، 36 بليون دولار) مصدرها هبات الأغنياء وتبرعات الخريجين واستثمارات البورصة، بالإضافة إلى دعوم تقدمها الشركات الكبرى التي ترتبط مصالحها في كثير من الأحيان بطبيعة البحوث ونتائجها. وكذلك المنح الحكومية التي تشجّع بحوثاً ذات طابع استراتيجي. ولكن الحال يختلف كثيراً في جامعات الولايات (الحكومية) التي تعاني من تقلّص ميزانياتها عاماً بعد عام. ولعل أفضل ما يوضّح أو يفسّر التناقض في الولايات المتحدة بين الابتكار والتقدم من ناحية، وتدني المستويات من ناحية أخرى، هو أن الأول يحصل في المدارس والجامعات الخاصة التي تتمتع بدعم مادي، والثاني يحصل عموماً في المدارس العامة التي ترزح تحت ضغوط اقتصادية. 

الدروس المستفادة من تجربة الولايات المتحدة
تؤكد "تيريزا أمبيل" في كتابها "سياق الابتكار" أن هناك شروطاً بيئية لابد من توافرها لخلق بيئة تعليمية محفزة على الابتكار، من بينها: 
1- الأمان الوظيفي للمعلم أو أستاذ الجامعة، حتي يتمكن من التركيز الكامل على عمله والمهام الموكلة إليه.
2- التخلص من قيود البيروقراطية بهدف ألا يضطر القائمون على العملية التعليمية أن يهتموا بأي أمور فرعية قليلة التأثير. 
3- قبول الفشل وتشجيع اتخاذ خطوات جريئة. 
4- تشجيع النقاشات التي تربط بين التخصصات بعضها البعض للربط يبن قطاعات مختلفة من المعارف. 
5- علو سقف التوقعات مع إبقائها في حدود الواقعية.
6- الحوافز بدلاً من السيطرة والمراقبة المركزية مع إطلاق حرية هيئة التدريس في اختيار المهام والوسائل.

وفي تقييم لتلك الجامعات التي أحرزت تقدماً ملحوظاً في السنوات الماضية، ظهر اسم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (السعودية) وأظهرت الدراسات أن سبب دخولها مجال المنافسة العالمية كان قدرتها على تحقيق الشروط سالفة الذكر، وبصفة خاصة الشرط الرابع الخاص بالنقاشات متعددة التخصصات، وكسر "الحدود" التقليدية بينها.

المساهمون