المواطنة والحقّ في الفنّ

المواطنة والحقّ في الفنّ

16 ديسمبر 2014
إسماعيل شموط، الحريّة
+ الخط -
فإذا كان رجل السياسة يبني مواطنته بالممارسة والخطاب، ويعلن عن ذاته في عزّ النضال اليومي من أجل الحرية والمساواة في الحقوق واحترام حقوق الأقليات والأنواع وما إلى ذلك، فإن الفنّان يعيش مواطنته باعتبارها صيرورة لا تفتأ تتحقّق، لا في الواقع فقط بل في واقع إنتاج العمل الفنّي. 

لننطلقْ من فرضيَّتين ستمكّناننا من بلورة مفهوم المواطنة الفنّية لدينا والمقارنة مع مفهوم المواطنة في بلدان الصورة والفنّ (الغرب). الفرضية الأولى تقول إن الفنّ والصورة عمومًا كانا ولا يزالان، إلى حدّ كبير، مكبوت الثقافة العربية، فممارسة التصوير عمومًا والتشكيل تخصيصًا، ضربٌ من النضال التاريخي لأجل الحقّ في الصورة. والثانية تقول إنّ الجسد هو صورتنا في الوجود، ومن ثمّ، كان وما يزال، محجوب المجتمعات العربية. 

رغم أن الصورة وصناعتها وجدتا مرتعًا أكيدًا لدينا، وتسارعت وتيرة إنتاجهما وتداولهما إلا أنهما لا تزالان تشكّلان إزعاجًا وقلقًا سيتزايد مع ما تعرفه هذه المجتمعات من انكفاء نحو المصدر الأصولي وعودة الديني في شكله السياسي إلى الحكم في الفترة الأخيرة. ويمكننا عدّ تعامل المجتمعات العربية مع الصورة الاجتماعية للجسد، بمثابة مقياس لنوعية الارتكاس الذي تعيشه هذه المجتمعات منذ ما يزيد على عقدين من الزمن.

الترابط بين الصورة والجسد ظلّ وسيظلّ مدخلًا لتحليل الثقافة الاجتماعية لهذه المجتمعات ونوعية تحولاتها. فأيّ موقع أو موقف يتخذه الفنّان العربي الحديث والمعاصر إزاء قضية مواطنته ومواطنة فنّه؟ 

ظلّت القضية الفلسطينية في الفنّ العربي الحديث، وإلى حدود الثمانينيات، تبلوّر هذا الهمّ النضالي من أجل إنسان عربي. وظلّت قضية المواطنة رهينة بقضية إنسانية الإنسان. إذ لم نعدْ نتحدّث عن قضية المواطنة إلا بعد أن استنزفنا قضية الوطنية.

لكن المفارقة الأكيدة في ما يسمى فنًا حديثًا ومعاصرًا، نجدها في أمرين؛ إمّا ركوده وانغلاقه، أو انعزاليته وتجريبيته غير المحدّدة، ما يجعل من بعد المواطنة السياسية، بعدًا شاحبًا في الحالين معًا. فمع أن العديد من التجارب تطرح بشكلٍ فنّي رفيع قضايا المواطنة، إلا أنّ هذا الشحوب يظلّ مرتبطًا بهوّية هذا الفنّ وتعددية تعبيراته، بحيث إن السياسي لم يعدْ يتبلور فيه باعتباره مقْصدًا بل مُنْتهى. 

لنقلْ إن ممارسة الفنّ بجميع أشكاله في مجتمعنا، تعدّ أصلا وبدءًا وبداهةً، من باب المجاهدة من أجل المواطنة. فالحقّ في الخبز والكرامة لا يوازيه غير الحقّ في المتعة الجمالية والإبداع والتعبير البصري. ربما لهذا السبب بالضبط تعدّ ممارسة الفنّ لدينا ضربًا من المواطنة المسبقة. إنها مواطنة ضمنية، سابقة على المواطنة في مفهومها المتداول ولاحقة عليها في الآن نفسه. 

فالمجتمعات العربية، رغم استهلاكها الكبير للصورة وإنتاجها لها، لا تزال في العمق غير متصالحة مع التصوير. فما يعدّه البعض ترفًا وكماليات رمزية، يغدو في المجتمعات المنكِرة للتصوير، ممارسةً ضدّ سلطة الإنكار تلك، مهما كان الشكل الذي تتخذه، عامًا أو خاصًا (في حالات تصوير المقدّس أو غيره) من جهة؛ وهو يغدو علاوةً على ذلك، توكيدًا لشرعية الممارسة الفنية، باعتبار هذه الشرعية سابقة على المفهوم اللاهوتي، ولها أبعاد عريقة توازيها في القداسة والعراقة، من جهة أخرى. 

لذا، حين ينتج الفنّان العربي أعمالًا ذات حمولة محلية وبُعْدٍ عالمي، فإنه يبني في الآن نفسه مواطنته في بعديْها: المواطنة المحلية والمواطنة العالمية، أي الانتماء الحقّ للكون. وهنا بالضبط يكمن الاختلاف الذي يحظى به الفنّ عن الممارسات الاجتماعية والفكرية الأخرى؛ فطابعه الرمزي يجعل منتجاته ذات قيمة مزدوجة، وذات علاقة بالزمن لا تتسم بالراهنيّ، حتّى وإن استندتْ إلى أحداث ووقائع قابلة للتأريخ زمنيًا. 

لم يحرّر التصوير الإنسان العربي فقط من شبحيته، ومن كونه شخصًا فحسب أي ظلًا، بل حرّره من كونه فاقدًا لذاته. فإذا كان التصوير قد حوَّل نقطة الخلق والإبداع من اللاهوت إلى الناسوت في بدايات القرن الماضي، فهلْ له اليوم أن يكون انخراطًا في مسلسل المواطنة والديمقراطية؟ 

يمكّننا هذا السؤال من تحديد العلاقة بين المقاصد الجمالية والمقاصد الاجتماعية والسياسية، بحيث يكون كلّ مقصدٍ جمالي بالضرورة ذا أبعاد اجتماعية وسياسية، مبنية على الخفة والمواربة واللا مباشرة، حتّى وهو يمارس مواجهةً مباشرة للشروط السياسية والاجتماعية.

أقول لأصدقائي الفنّانين: لا تتمثّل المواطنة بالضرورة في الانخراط في الحِراك السياسي، وإن كان الأمر محبَّذا، ولا في إنتاج "غرنيكات" عربية، لكنّها تتمثّل في جعل الفنّ وطنكم كي تستطيعوا بناء مواطنتكم. 

لأن الترابط بين مفهومي المواطنة والديمقراطية له شكل العروة الوثقى، فإن الحقّ في الفنّ وفي التربية الفنّية، والحقّ في الذاكرة الفنّية (المتاحف)، والحقّ في المتخيل الفنّي، تبدو أمورًا يتطلبها الفنّ باعتباره وجودا ومَزيَّةً. لنلخص كل هذا في مقولة "الحقّ في الفنّ" ولنسائلْ هذا الحقّ باعتباره ذا بعدٍ مواطني وعلى المدى البعيد. 

الحقّ في الفنّ ليس شعارًا مدنيًا فحسب، لأنه يفترض أولًا وبالضرورة الحديث عن حق آخر هو حقّ الفنّ. وحقّ الفنّ ليس وضعيته الاعتبارية، بل حقّه في الوجود بذاته، باعتباره مكوّنًا أساسًا في الحياة. أما الحقّ في الفنّ فموضوع سياسي بحت، لأنه يتصلّ بحقّ كلّ فرد في المتعة الجمالية، بما يتطلبه ذلك من تعليم فنّي ومتاحف ومعمار فنّي وفضاءات عمومية تحوي مآثر فنّية محلية وعالمية. يتعلّق الأمر باستثمار استراتيجي يقي المجتمع من الانغلاق والتطرف والإحباط ونكران الصورة والجمال، كما يقيه من الجهل المركّب.


المساهمون