الشخصيّة التونسيّة كما يراها المؤرّخ

الشخصيّة التونسيّة كما يراها المؤرّخ

25 نوفمبر 2014
الهادي التيمومي
+ الخط -
"كيف صار التونسيّون تونسيّين" كتابٌ صدرَ مؤخرًا للمؤرخ الهادي التيمومي، هو عبارة عن رسالة حبّ يرفعها الكاتب إلى تونس وفيها، كما في كلّ رسائل الحبّ، الكثير من الاندفاع والخروج عن السّبل المسطّرة والقواعد المقدّرة، والذهاب بعيدًا في الاحتفاء بالمحبوب، مع جمالٍ في العبارة وأناقةٍ في الأسلوب. لا يتأمّل المؤرّخ التيمومي "الظاهرة التونسيّة"، بل يتغنّى بها. فقد تخلّى عن رصانة البحث العلمي الأكاديميّ، ومضى يستنفرُ طاقةَ اللغة التأثيريّة ليقولَ "بوْحَهُ" بكثيرٍ من الفصاحة والذكاء. تتجلّى هذه الفتنة بتُونس منذ الصفحة الأولى، حيث أثبت شاهدين اثنين، الأوّل قولٌ لكعبِ الأحبار عن مِصر، استعاره الكاتب لتونس، والثاني بيتان من الشعر لأبي القاسم الشابّي.
من الجليّ أنّ الكتاب استدراكٌ على السياسيين الذين لم يتمكّنوا من الإحاطة بحقيقة الهوية التونسية، واستقصاء أهمّ خصائصها، فعمدوا إلى اختزالها حينًا والتهوين من شأنها حينًا آخر. وتُونس، مثلها مثل كثير من البلاد العربيّة، تشهد "جوعًا إلى الانتماء"، ورغبةً عارمةً في استنفار الذاكرة واستدعاء الرموز. فالتونسيّ لا يكفّ عن الالتفات إلى الماضي، يستدعي صوره يحتمي بها من حاضر خاوٍ، فقير، يفتقد إلى قوّة الرمز ورحابة المجاز.
منذ البداية يقرّ الكاتب أنّ الهوّية التونسية، لم تكن نتاج دولة الاستقلال، كما يدّعي بعضهم، بل هي أبعد غورًا وأعمق جذورًا، إذ تتحدّر من تاريخٍ سحيقٍ ومن زمنٍ يلفّه الغموض. هي ليست وليدة الماضي فحسب، بل وليدة الحاضر أيضًا، لذا تتطلب الإحاطةُ بها، على حدّ عبارة إدغار موران؛ "الذهاب والإياب بين الحاضر والماضي ... فإحياء الذاكرة لا يتمثّل في إحياء الذاكرة فحسب، بل في إعادة تسليط الضوء على ذلك الماضي اعتمادًا على تجربة الحاضر وانطلاقًا منها، وكذلك في إعادة تسليط الضوء على الحاضر اعتمادًا على تجربة الماضي وانطلاقًا منها".
أمّا الذين شكّلوا الهويّة التونسية فكثر: "لم يبنِ الشخصية التونسيّة أولئك الذين تحتفي بهم الكتب المدرسيّة، أعني النوابغ والعلماء والملوك ورجال البحر والأدباء والفنانين فحسب، وإنّما بنتها أيضًا "الشخصيات الصامتة" التي استجابتْ لنداء التاريخ فنحتتْ، كلّ على طريقته، "روح البلد وهويّته الحميمة". من هذه الشخصيات الحرفيّون الذين ما زالوا يصنعون عرائس الحلوى وسجاجيد القيروان والأواني الفخّارية، وكذلك مدونو التراث اللاماديّ الذين يجمعون ما ترسّب في الوجدان الجماعي من حكايات وأمثال، كما بناها مدوّنو الطبخ التونسيّ والمدرّسون". لكن أهمّ صنّاع تونس؛ التاجروالفلاح. فالتاجر، كما يقول الكاتب، هو الصانع الرئيس لتُونس، ومن خصائصه أنّه وسطيّ معتدلٌ متسامحٌ، أمّا الفلّاح ففيه تذمّر ونزعة إلى التمرّد، وفيه عجزٌ عن استثمار نزعته التمرّدية.
في الفصل الثاني، استعرض الكاتب "مواصفات التونسيّ" في مطلع القرن الواحد والعشرين. وهي مواصفات يشترك فيها، كلّ التونسيين مهما تباعدت مدنهم. ومن أهمّها "خلق المكايسة" على حدّ تعبير ابن خلدون، وهذه صفةٌ من صفات التاجر، والمكايسة هي السماحة والتحذلق في الكلام الجميل. ومن المواصفات الأخرى الإقبال على الحياة والانفتاح على الآخر، وحبّ التعلّم. لكن للتُونسي سمات محرجة أيضًا عدّدها الكاتب وعلّق عليها منها التباهي والتكسّب المادي، والإيمان بالشعوذة. وقد عوّل الكاتب، وهو يعدّد صفات التونسي، على الأمثال الشعبيّة يؤيّد بها أحكامه، إذ إنها صادرة عن الوجدان الجماعيّ، فهي الأقدر على الإفصاح والكشف عن غائر مشاعر التونسي.

المساهمون