لرياح الحريّة التي مرّت من هنا.. نُغنّي

لرياح الحريّة التي مرّت من هنا.. نُغنّي

20 نوفمبر 2014
لا يكاد المشهد السينمائي الجزائري يعرف إنتاجات مستقلة(أ.ف.ب)
+ الخط -

لم يصل "الربيع العربي" إلى الجزائر. بيد أن رياحه مرّت من هنا، وخلخلت كلّ شيء تقريباً، بدءاً بالسياسة ووصولاً إلى الفن. خلطت هذا بتلك، وفتحت المجال لظهور أنماط فنية جديدة وغير مألوفة.

في فيلمه الروائي الطويل "نورمال" (إنتاج 2011)، أشرع المخرج السينمائي المخضرم مرزاق علواش، مبكّراً، نافذة الأسئلة على الثورات الشعبية التي اندلعت في أكثر من بلد عربي مع مطلع العام نفسه، لكن من وجهة نظر شباب الجزائر. هناك حيث لم يصل "الربيع العربي"، غير أن ظلاله ظلّت مخيّمة على الأفق، في ظلّ وضع سياسي واجتماعي لم يختلف كثيراً عن ذلك الذي كان موجوداً في تونس ومصر وليبيا قبل ثوراتها.


هواجس الربيع

اقترب صاحب "عمر قتلاتو"، أحدِ أبرز الأفلام في تاريخ السينما الجزائرية، من هواجس الشباب الجزائري وآمالهم وأشواقهم إلى الحرية والديمقراطية، عبر قصّة شابّين يعتزمان إنجاز فيلم حول شاب آخر تعرّضت مسرحيته إلى مقصّ الرقيب، بدعوى تعارضها مع قيم المجتمع الجزائري المحافظ.

وانطلاقاً من جدلية الرقابة وحرية التعبير، يمضي الفيلم إلى رصد واقع يتّسم بالغلق السياسي والاحتقان الاجتماعي، وطرح إشكاليات مرتبطة بالحرية وواقع المرأة، ونظرة الشباب الجزائري إلى الثورات الشعبية القائمة في المحيط، ومدى إمكانية تجسيد ثورة سلمية في الجزائر.

يظهر الفيلم، الذي حاز جائزة مهرجان الدوحة "ترابيكا" السينمائي، الهوّة بين رأيين متّفقين حول الفكرة، لكنهما مختلفان في وسيلة تجسيدها. فبينما تتحمّس "عديلة" للنزول إلى الشارع وإجبار النظام على الرحيل، يبدي "فوزي" حذره حيال ذلك، مفضّلاً النضال عبر الفن.

كان ذلك، تقريباً، الفيلم السينمائي الجزائري الوحيد الذي لامس موضوعة "الربيع العربي" من وجهة نظر مخرج لم يُخْف انتصاره لإرادة الشعوب العربية في إنهاء عقود من الديكتاتورية والتسلّط والاستبداد، وقد رافقت أفلامه التحوّلات السياسية والاجتماعية التي عاشتها الجزائر طيلة عقود، حيث "وثّقت" بعضها وتنبّأت ببعضها الآخر. عدا ذلك، ظلّت الثورة التحريرية والأزمة الأمنية تيمتين مهيمنتين على المشهد السينمائي الذي لا يكاد يعرف إنتاجات خارج دعم الدولة، ما جعل معظم الأفلام حبيسة وجهة النظر الرسمية في موضوعاتها وزاويا طرحها.


مسرح رسمي؟!

حال السينما لا تختلف كثيراً عن حال الفن الرابع. طيلة سنوات ظلّ مبنى "محي الدين بشطارزي"، الذي يتوسّط قلب العاصمة، منبراً لمسرح "رسمي" لا يخرج عن المقرّرات إلاّ في ما ندر. حتّى أن دورة المهرجان الوطني للمسرح المحترف التي خصّصت للاحتفال باليوبيل الذهبي للاستقلال قبل سنتين، خُصّصت فقط للأعمال التي أنتجت بالمناسبة.

وبدل أن يقدّم المسرحيون أفكاراً ورؤى جديدة حول موضوع الثورة والاستقلال، تنافسوا في إعادة إنتاج الخطابات الرسمية بشكل فجّ ومباشر. فكانت النتيجة مسرحيات هزيلة جعلت من الدورة واحدة من أضعف دورات المهرجان بشهادة لجنة التحكيم التي أشرفت على تقييم المنافسات الرسمية.

وحدها مسرحية الإعلامي والروائي والمسرحي احميدة عيّاشي صنعت الاستثناء. قدّمت "قرين" التي ألّفها وعرضها عيّاشي بالمناسبة ذاتها، قراءة نقدية في خمسين سنة من الاستقلال، من خلال شخصية تخاطب جداراً يمثّل شاهداً على كلّ المحطّات والمآسي التي عاشتها الجزائر منذ الاستقلال العام 1962.

وبعيداً عن مبنى المسرح الوطني التابع لوزارة الثقافة، قدّم الممثّل مصطفى عيّاد عملاً خرج عن المألوف. وجّهت مسرحية "فيسبوك يا تشوتش"، سهام النقد اللاذع لواقع الفنان في الجزائر، معرّجة على الوضع الثقافي والاجتماعي والسياسي، من خلال قصّة فنان يكتشف الفضاء الافتراضي، ويتّخذه منبراً للتعبير عن آرائه المعارضة للسلطة بمختلف أشكالها، قبل أن يقرّر الترشّح لرئاسة الجمهورية. في ذلك الفضاء، يتخلّى السياسيون والمثقّفون والإعلاميون عن هالاتهم ويتحوّلون إلى أصدقاء عاديين، وهناك فقط بإمكان الفنان أن يرفض طلب صداقة من رئيس الجمهورية نفسه، والذي يخصّه العرض بنصيب وافر من الهجاء.

أُنتجت المسرحية وقُدّمت على الخشبة عام 2011، أي في بدايات "الربيع العربي". لكن مؤّلفها، محمّد شرشال، ينفي أن يكون لذلك علاقة بجرأتها ورفع سقف النقد وتجاوزها الرقيب الذاتي، مؤكّداً أن "حرية التعبير ليست غريبة عن المسرح الجزائري الذي كان المنبر الديمقراطي الوحيد في عهد الحزب الواحد". يستدلّ الكاتب والمخرج بأعمال تميّزت بالنقد اللاذع، مثل "بابور غرق" (السفينة غرقت)، لسليمان بن عيسى، "قدّور البلاندي" لحميدة العياشي، "رجال يا حلالف" لمالك بوقرموح، وأيضاً مونولوجات محمد فلاق.


فن في سياسة

كثيراً ما يختلط الفن بالسياسة، ويكون ذلك ملفتاً أكثر خلال المواعيد الانتخابية، حيث يصبح الفن، والغناء خاصّة، وسيلة دعائية لصالح مرشّح بعينه.

وُظّفت الأغنية السياسية بشكل لافت، خلال الانتخابات الرئاسية في أبريل/ نيسان الماضي. أدّى عدد من الفنانين الداعمين لترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة، من بينهم المغنّي العالمي الشاب خالد، أغنية مشتركة حملت عنوان: "تعاهدنا مع الجزائر". أثارت الأغنية موجة انتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي واتهامات لهؤلاء بالتزلّف للسلطة والولاء لها مقابل مصالح شخصية، ووصل الاستياء حدّ الدعوة إلى مقاطعة الفنانين المشاركين فيها.

بالمقابل، أطلق عدد من الفنانين عشرات الأغاني التي تتّهم النظام بالفساد والاستبداد، وتجهر بمعارضة الرئيس الذي لم يلق ترشّحه إجماعاً. أبرز هؤلاء مغني الراب أنس تينا، الذي أدّى أغنية سلّط فيها الضوء على مشاكل الجزائريين ودعا فيها بوتفليقة إلى عدم الترشّح. أيضاً، أطلق مطرب "الراب" الشهير لطفي، "دوبل كانو"، الذي أصبح معارضاً شرساً للنظام الحالي، أغنية انتقد فيها الوزير الأوّل، عبد المالك سلال، بشكل لاذع، ثم أطلق أخرى قبل أسابيع بعنوان: "سياسية اللصوص"، اتّهم فيها مسؤولين حاليين بالفساد، ووجّه نقداً للوضع العام في الجزائر التي قال، في حوار مع صحيفة "الخبر"، إنها "تتّجه نحو نفق مظلم، وإن أوضاع الجزائريين تسوء يوماً بعد يوم".

وإن كانت الأغاني الداعمة للرئيس تُبثّ عبر القنوات الخاصّة، فإن المنبر الوحيد للأغاني المعارضة هو مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تحقّق انتشاراً ومتابعة كبيرتين.

غير أن دور الفنانين لا يقف عند "المهمة" التي قرّرها النظام. فالبعض قرّر أن يخوض تجربة الترشّح أملاً في الوصول إلى قبة البرلمان، أو إلى كرسي الرئاسة، كما فعل مغنّي الراب "ميستر آبي"، بينما اختار آخرون انتقاد الظواهر التي تعيشها الساحة السياسية، مثلما فعل الممثّل عبد الرحمان ربعي، أحد وجوه برنامج "الفهامة" الكوميدي الذي كان يبثّه التلفزيون الحكومي قبل سنوات. فبعدما عبّر عن رغبته في الترشّح للبرلمان، عاد وعدل عن الفكرة، مبرّراً ذلك بأنه "يخاف الله ويخشى فقدان جمهوره". ربعي أصدر أغنية ساخرة يتهكّم فيها من ظاهرة المال السياسي وبيع رؤوس القوائم الانتخابية لرجال الأعمال المتنفذين وأصحاب العلاقة الطيبة مع السلطة.

المساهمون