وهمُ الحريَّة

وهمُ الحريَّة

18 نوفمبر 2014
+ الخط -
لا معنى للزّمن في مكانٍ مُعتمٍ لا يُسمَح بدخولِ الضوء إليه، أو في مكان مُضاءٍ لا يُسمَح بدخولِ العتمة إليه، ما يجعل الوقت وقتًا، هو هذا التناوب الأزليُّ الكونيُّ بين الليل والنهار، النّور والعتمة. الأسودُ الكالحُ الساكن أو الضوء الساطع المستمرّ، هو تجميد للحظة كوجوه الناس في الصور الفوتوغرافيَّة، هو انعدام للزمن وهذا هو تقريبًا جوهرُ الخلود. 

في حالة انعدامِ التّناوب، يتحوَّلُ الطبيعيُّ الأصليُّ العاديُّ في الجسم البشري إلى ابتكارٍ مُفاجِئ. ما يلفظهُ الجسم خارجًا من خلايا ميَّتة فائِضة، يُشكِّل بوصلةً زمنيَّةً للساكنين في مَكانٍ ذي ضوءٍ واحد: طولُ الأظافر وكثافةُ الذقن، أظافِركَ وذقنُكَ ساعة أحدهم، وأظافرُ وذقنُ آخر هي ساعتك، أنتَ وأظفرهُ قصيرةٌ، لستَ أنتَ وقد طالتَ أظفرهُ قليلًا، لستَ أنتَ وقد طالتْ أكثر، ليس هو وقد طالتْ أظفرك!.

تشعرُ بالزمن بتأثيره العميق في أجساد الآخرين، كالتعب والتداعي والتقهقر والتراجع، مدروجُ زمنك هو اقترابُ أجسادهم من العدم. 

الهندسةُ الكارهةُ رصَّفَت غرف الزنازين بتساوٍ مُخلصٍ على حافّتي الممرِّ الضيَّق، كإسطبلٍ كبيرٍ مليءٍ بالأحصنة، المكانُ مُهندَسٌ بحيث لا يَسمَح سوى بمرور شُعاعِ ضَوءٍ يتيم، ينبثقُ من باب السجن الأساسي، كانبثاقِ الإشاعةِ من فم النمَّام، ومرورِ نسمةِ الهَواء عبر شقِّ الباب.

شُعاعُ الشمس الآتي من الخارج يصطدِمُ بعمود مُسنَّن في الممر، ليرتسمَ ظلّه على الحائط المقابل، الظلُّ هو سفيرةُ الخليقةِ الوحيدة في الداخل، هو ممثِّل الخارج في الداخل، هو محاولة الفسيحِ للتسلُّلِ إلى المغلق، هو لطخةُ الحريَّةِ على جدار السجن. 

الظلُّ يأخذُ عدداً لا نهائيًّا من الأشكال، حَسْب موقع الشمس في السماء، وكلُّ سجينٍ يراقبُ هذا الشكل المائع المتحوّل، ليفسِّره كما يعتقد أو يرى أو يريد، الشكلُ على الحائط مثل بصقةٍ ممدَّدة غيرُ محدَّدةِ الحواف، كحلزونٍ رُشَّ الملحُ عليه للتو. 

ولأنَّ الأشكال المتولّدة من انطباعاتِ الغيوم ودخانِ السجائر ليست عبثًا، فإنَّ الأشكال الصادرةَ عن العمود المسنّن ليست مصادفةً أيضًا، ثمّة كلامٌ دقيقٌ يريد أحدهم إيصاله لك، هي لغة خاصّة للخليقة، هي لسان حال الكون، هي "كلام" الكون. 

أصبح هذا الظلُّ الكليُّ التشكّل، لاحقًا ساعة الجميع. 

كلُّ سجينٍ يحفظ شكلًا يتولَّد من الظل، نتيجةَ تراكب موقع الشمسِ في السماء في لحظةٍ معيّنة مع العمود المسنّن. العمود ثابتٌ والشمسُ هي التي تتحرّك لتتولّد الأشكال. خارجَ السجن، الأرضُ تدور حول الشمس الثابتة. داخل السجن حيث الاستثناء الكبير: الشمس هي التي تدور حول عمود السجنِ الثابت. 

كلّ سجينٍ يكتشفُ في الظلّ شكلَه الخاص. أحدهم يرى في الظلّ وجه طفلة، سجينٌ آخر يرى في الظلّ شكل بيتٍ قديم، آخرُ يراهُ خنجرًا مغروسًا في تفاحة، أما أنا فقد كان شكلي الخاصّ: نهرٌ يجري. 

الشكل يظهرُ مرّة واحدة فقط في اليوم، وظهورُ الشكل مرتين عند صاحبه، يعني أن يومًا واحدًا قد مرّ، لا تشعر بالنعاس والتعب إلا عند ظهور الشكل مرّتين. لكلّ سجين شكلٌ خاصّ به، أي يومٌ خاصّ به، أي ساعة خاصَّة به. 

أحدُ المهووسين بالظلّ، صارَ يستطيع أن يحدّد موقع الشمس في السماء عبر الأشكال المتغيرة للظلّ، الشعاع هو دخول الخارج للداخل، والظلّ هو نفاذ الداخل للخارج. 
لم الحريَّة إذاً؟!


المساهمون