من سياسة الفنّ إلى الفنّ السياسي

من سياسة الفنّ إلى الفنّ السياسي

11 نوفمبر 2014
+ الخط -
وُلد الفنّ العَربي في حُضنِ الكنيسة، ونما وترعرعَ في حُضن الفكرِ النهضوي، ثمّ دخلَ المغامرةَ السرياليةَ لوقتٍ قصيرٍ كي يعودَ إلى حُضنِ المرجعيّة القوميّة والوطنيّة، ليتحرّر منها عبر ارتيادِ آفاقِ التجريد.

إنّه مسيرٌ، سيجعلُ الفنّ العربي يتطوّر بالعلاقة مع ذاتِه أكثرَ من تبلورِه بالعلاقةِ مع محيطِه الفنّي العالمي، خلا أحوال قليلة، ومن خلال نماذج، لم تحظَ لسوء حظّها بالاعتراف والتبجيل الذي حظيتْ به التجارب "المرجعيّة"، أي تلك التي تسايرُ بشكلٍ أو بآخر حركةً في السلطة أو خارجَ السلطة الرسمية، لكن لها سلطة معيّنة.

تشكّل فترة الثمانينيات، بداية الخروج عن هذه المرجعية، تارةً بالتجريب الشكلي، وأخرى بالبحثِ عن آفاق جديدة في العلاقة بالمواد والفضاءات. ونظرًا إلى اندماج الفنّ العربي بالمناخ الثقافي -خاصّة في المشرق- وتحوّل الفنّ في الكثير من البلدان العربية القومية منذ الخمسينيات، إلى واجهةٍ ثقافيةٍ تجاوزتْ أحيانًا الممارسات الثقافية اللغوية الأخرى، تحوّلت الطلائع الفنية التي كانتْ تشكّل "الثورة" أو ما يشبهها، إلى فنّ رسمي مكرّس في الواقع وفي البرامج التعليمية وفي الفضاء العامّ.

يمكنُ من المنظور الحالي، عدّ الحركة السريالية العربية في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات (كامل التلمساني، ورمسيس يونان، وفؤاد كامل وفي ما بعد إنجي أفلاطون) إحدى أكبر الومضات التي حرّكتْ وجدان الفنّ العربي باتجاه عوالم جديدة.

ومن ثمّ ربما، كانتْ هذه التجربة في منظورِها السياسي الخفي، أكثرَ استجابةً للسياسي في الفنّ منها لدى فناني الثورات والسياسات العامّة وفناني الواقعية وقضايا التحرّر. ولا أدلّ على ذلك، من أن إنجي أفلاطون كانتْ تمثّل بشكلٍ ما تمظهرًا وامتدادًا لهذا المنحى الخفي، الذي كان يظهرُ في التمرّدِ ما بعد الواقعي. 

وإذا كانتْ الحركةُ السريالية بشكلٍ ما انزياحًا أوليًا عن التشخيصية الواقعية بنزوعها السياسي التبسيطي، فإنها من ناحيةٍ أخرى كانت تشكّل نزوعًا نحو تجريدٍ يرتكزُ على الحلم والرؤيا وخلخلة مبادئ المرئي، والرمزية السياسية التي انبنتْ عليها الحركة التشكيلية العربية حتّى ذاك الوقت. 

فقد ظلّ البعدُ السياسي في الفنّ مرتبطًا بالتحولات الاجتماعية والحركات الجمْعية وقضايا التحرر.

وإن كانَ تناول القضية الفلسطينية، قد صارَ في مرحلة معينة نموذج "الالتزام" في الفنّ العربي، فإن قضية الفلاحين والفقراء وغيرهم من المستضعفين، ظلَّت الأرضية التي ينبني عليها التصور السياسي والاجتماعي للفنّ.

من هنا يمكنُ عدّ الحركة السريالية، وأعمال الفنّانين المنتمين لمدرسة باريس (شفيق عبود والجيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي) تحوّلًا جذريًا، لا في الممارسةِ التشكيليّة فحسب، بل أيضًا في تعاملها مع السياسي.

فهذه الحداثة الفنية، كانتْ تحررًا من السياسة بمفهومها العامّ، لمصلحة "سياسة" اخرى مبنيّة على استبطان القضايا الخارجية وتحرير الفنّ من الترميزية، لتحويله إلى كينونة تبني الهويّة عبر وسائط أخرى غير تشخيصية.

هذا ما قام به بشكل نسقي ومُمنهج، في المغرب العَربي، أحمد الشرقاوي ومحمد خّدة ومجموعة أوشامفي الستينيات، ومجموعة البعد الواحد مع شاكر حسن في السبعينيات في المشرق العربي. بيد أنّ التعبيرية بمختلف أشكالها، ما لبثتْ أن تسلّمت المشعل لتمنحنا تصوّرًا جديدًا للكون وللكائن وللجسد، ولتبني سياستها على اللا محتمل والفظيع واللاذع. إنها العودة للمرئي عبر تجريده من طبيعتِه المعطاة وبنائِه على المفارقة الفاضحة للذات والآخر.

في عزّ الثورة التونسية، خصوصًا بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، صرنا نعيشُ فورةً مغايرةً للفنون البصرية: من الملصقات الفنية التي تزيّن الجدران، إلى المنجزات الفنية في الشوارع، بل حتّى إلى تحويل الفضاء العامّ إلى مجال لعرض اللوحات، بتعليقها على أعمدة المصابيح أو إشارات المرور.

فإذا كانَ الحراك العربي، قد فاجأ الفنّانين والمثقّفين بحيث صاروا بشكلٍ ما ضحيته الأولى، فإن الفنّانين الشباب كانوا بشكلٍ مباشر، لا مع الثورة فحسب، بل مع امتداداتها ونتائجها. إذ شعروا منذ البدء، بالخطرِ الناجمِ عن وصولِ أناس للسلطة، لا تهمّهم الصورة في جماليتها، بل في طابعها الاستعمالي. وكان من نتائج المواجهة الأولى، أن حُطمتْ أعمال معرض بكاملِه من قبل الإسلاميين في 2012.

لم يثنِ هذا الفنّانين الشباب عن تنظيم المواجهة، مع ما سيعرف في ما بعد بـ "الفنّ النظيف"، (في المغرب ومصر وتونس). فكان معرض سياسات 1 وسياسات 2، في تونس. 

تتصادى هذه الحركة - لظروف يصعب الآن تحليلها بعمق - مع أعمال لفنّانين معاصرين سواء من مصر أو لبنان أو المغرب. فالعلاقة بالسياسي في الممارسة الفنّية الحديثة، لئن كانتْ قد خفتتْ في الثمانينيات والتسعينيات، فقد صارتْ تتسلّل إلى العمل الفنّي كي تفجره أحيانًا من الداخل.

صارَ السياسي محفزًا للبحث عن الشكل الفني، بعد أن كانَ مجرد مضمون للعمل الفني أو مقصدًا له. إنه حالة وجدانية وجمالية تصوغ العمل، كما هو مثلًا حال الجسد المضمّخ بالدم لدى هيلا عمار.

حتّى التعبير عن القضية الفلسطينية، صارَ لدى الفنانين المعاصرين يخرجُ كثيرًا عن التصوّر التقليدي، بغية الغوص في الذات والأرشيف والسخرية، كمثلِ اللجوء إلى عناصر لا تمتُ بصلة إلى البندقية والكوفية وغيرها مما اعتدناه.

هل هذا العوْدُ للسياسي في العمل الفني نابعٌ من الطبيعة المتعدّدة والهجينة والفضائية والحركية للفنّ المعاصر؟ أم من طبيعة التحوّلات الطارئة التي جعلت العالم العربي يكشف عن وجوهٍ جديدة لم يختبرها من قبل؟

من هنا تبدأ أسئلة الحاضر

المساهمون