الدار وشيخها

الدار وشيخها

21 أكتوبر 2014
+ الخط -
الناس بخياراتها، ودور النشر أيضًا. أيّامذاك، مطلع التسعينيات، ودار الجديد في طور التأسيس، والتأسيس، بدوره خيارات ومقاصد، قرعنا، خفافًا، باب الشيخ عبد الله العلايلي الذي كان قد انتقل، للسكن، بفعل التهجير، من منزله الأصلي في السوديكو ـ رأس النبع إلى شقّة في حيّ البطركيّة العريق، غير بعيد من الصنائع حيث مكتب دار الجديد.
فُتح لنا ودعينا إلى غرفة الشيخ فخلعنا نعالنا ودخلنا على رجل نحيل، ثاقب النظرات حادّها، متربّع أرضًا أمام منضدة من خشب ووراءه، ومن حواليه، رفوف معدنية امتلأت بكتبٍ عليها سيماء الاستعمال الجادّ المثابر، يطالع جريدةً وبين يديه وريقات ملونة خطّ عليها، بقلم رصاص، ما يبدو أنه أفكار وملاحظات سريعة برسم مشروعٍ كتابيّ لاحق.
والحال، أننا لم نطرق باب الشيخ بلا استئذان. فمطلع التسعينيات، بعد سنوات من الصمت الاحتجاجي، كان النشاط قد دبّ من جديد في شرايين الشيخ اليوتوبي، الطُلَعة، (والكلمة مما تعلّمناه منه)، وعاد يكتب وينشر بانتظام تارة في جريدة السفير وطورًا في جريدة النهار كما ليؤكّد أنه، في السياسة، على مسافةٍ واحدة من القرّاء وأذواقهم. وبعودته إلى الكتابة، وإلى الإدلاء في أحوال لبنان وأحوال العالم بدلوه كان الشيخ كمن يدعو إليه من لم يدركهم اليأس والقنوط. ومن هؤلاء كنّا.
وتكرّرت اللقاءات، ثم، على غير اتفاق، رست على دورية منتظمة لا يُخِلّ بها أي من الطرفين. زيارة بعد زيارة توثّقت العرى بيننا وبين الشيخ إلى حدّ أن موضوع النشر، أو بالأحرى إعادة نشر مؤلفاته، وهو ما قادنا إليه في البداية، بات الأدنى أهمية على جدول أعمال هذه "المقابسات" الأسبوعية التي كانت تستجيب، في مكان ما لرغبتين متقاطعتين: فالشيخ، الملتزم منزله إلا نزولاً عند الضرورات، كان يشتاق إلى "العالم" ناسًا يخطب فيهم، ولو بصوت برته السنين، ووقائعَ يعرف جيداً أن ما يُطالعه عنها في اليوميات لا يحيط بها؛ أما نحن فكانت زيارة الشيخ أشبه بالحجّ الذي نعدّ له ونستعدّ: نُعِدُّ أسئلتنا التي نطمع بأن يجيبنا عنها وينورنا في شأنها، ونستعدّ لأسئلته التي قلَّما توقعناها وكثيرًا ما جاءت إحالةً إلى تفصيلٍ ما، طالعه في هذه الصحيفة أو تلك. اليوم، وقد مضى على وفاة الشيخ قرابة الثمانية عشر عاماً (1996)، لا بدّ لنا من الاعتراف أن الشاهِدَ الشَّبَحيَّ الصامِتَ على هذه اللقاءات إنما كان المَوْت. فحتّى في لحظات تجلّيه القصوى كان الشَّيْخُ يوحي للجالس بين يديه، بهشاشةٍ لا يملك المرء معها من التساؤل كيف أنَّ هذا الجسد القليل مؤتمنٌ على هذا الرجل الكبير. هكذا كان وانتهى الأمر بأن نضج لدى الشيخ الاطمئنانُ بأن دار الجديد، اليافعةَ أيامذاك بين دور النشر اللبنانية، جديرة بأن تؤتمن على إعادة نشر مؤلفاته. وهكذا تتالى صدورها في طبعات ثانية وثالثة (لما كان قد صدر من قبل) قدَّم لها الشيخ بمقدّمات جديدة. وحسب المسوّدات المصححة بقلم الشيخ شاهدًا على أنَّ إعادة النشر هذه كانت متابعةً حثيثةً لما أتيح لنا من جلسات بين يديه، لا سيما أن الكثير من تلك التصحيحات إنما كانت أقرب إلى الهوامش التفسيرية الطويلة منها إلى التصحيح المطبعي البحت.
وإذ تريد الصدف أن تحلَّ الذكرى المئة على ولادة عبد الله العلايلي ــ الشيخِ اللبناني الأزهري الأحمر آخرِ العنقود من سلالة اللغويين العرب المسيحيين ومن سلالة المجددين الدينيين المسلمين والرائدِ في السّؤال الذي نتلعثم في الإجابة عنه: «أينَ الخطأ؟» ــ أن تحلّ في عامنا هذا، وعامُنا هذا نسيج وحده في روزنامة بلادنا، فحقّ له، وحقّ علينا، أن نتوقف عند الشيخ، رجلاً ثرّاً كثيراً، وحياةً على قلق، وكتبًا مواقِفَ، وأيقونةً لَعلَّها تَجِد لنَفسِها يوماً محلاً حائطاً عربياً تُعَلّقُ عليه.

المساهمون