نعوة

22 يوليو 2025   |  آخر تحديث: 09:54 (توقيت القدس)
لوحة "إعدام الإمبراطور" لمانيه (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهد الإعلام السوري تدهورًا مهنيًا كبيرًا، حيث تم بث مقاطع مزيفة واستخدام لغة تحريضية، مما أدى إلى فقدان الثقة والمصداقية.
- بدلاً من لعب دور إيجابي في توجيه المجتمع، انساق الإعلام السوري وراء الشعبوية، مما أفقده دوره كقائد للرأي العام وجعله جزءًا من المشكلة.
- مع اقتراب سورية من أحداث جسام، تزداد الحاجة إلى أصوات عاقلة، لكن الإعلام السوري أضاع هذه الفرصة، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة في المستقبل.

من بين عتبات كثيرة قفزتها سورية نحو الهاوية خلال أسبوع، كانت قفزة الإعلام هي الأوسع، والأخطر، فقد اجتاز أدنى المعايير المهنية، وأبسط مدوّنات السلوك، ونزل إلى دركٍ غير مسبوق من الرداءة المهنية، ووقع في فخاخ الاستمرار ببث مقاطع مزيفة بعد ثبوت زيفها، واستخدام لغةٍ تحريضية، وتبني مفاهيم بدائية. التغني بأفعال مخجلة، والتفاخر ببطولاتٍ لم تحصل. التركيز على الغرائز، ورفع مستوى هرمون التوستيستيرون، والرهان عليه بوصفه حلّال عقد، نقل تصريحات الأكثر حماقة، وبث الصور والفيديوهات المروعة. 
شمل ذلك منصّات الهواة، والصفحات الشخصية التي تظن نفسها وسائل إعلام، وشمل بالدرجة نفسها وسائل إعلام كبرى ومحترفة، ولديها دليلٌ مهنيٌّ ملزم درّبت عليه محرّريها. ومع ذلك، نقلت وتناقلت أخباراً كاذبة، ومقاطع مصوّرة لا وظيفة لها سوى استنهاض شهوة الدم. 
ومن بين كل البنى والمؤسّسات السورية التي تكسّرت بالتدريج خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، وتلك التي تهشّمت تماماً في السبعة أشهر الأخيرة، وتلك التي تتهشّم الآن، بقي للإعلام فرصة ضئيلة ليلعب دوراً ما في استدراك النفس الأخير في صدر البلاد، ولكنّه للأسف ليس سوى بنية من بنى بلد محطّم، وتعبير عن مجتمع متشظٍ، ومناخ هشّ. 
أسوأ ما يمكن أن يفعله الإعلام بنفسه أن ينساق وراء المزاج الشعبوي، ويصبح منقاداً له، بدلاً من أن يقوده. أن يسير خلف الناس بدل أن يسير بجانبها أو قبلها. أن يتصرّف كطرف، أو على الأقل أن يتصرّف بطريقة تجعله يبدو طرفاً، وهو يلتقي بذلك مع السلطة، أي سلطة. والتي تخسر مستقبلها في اللحظة التي تصبح فيها طرفاً. 
وقد فعل الإعلام السوري بنفسه ذلك بأسوأ طريقةٍ ممكنة، فلم يكتف بالانسياق خلف الشعارات الشعبوية، بل انتقى الأسوأ منها على الإطلاق وجعلها منهجاً ومدرسة. 
خطورة الأمر، أن أياماً شداداً تنتظر سورية، والأشهر المقبلة ستكون ملأى بأحداث جسام، يحتاج كل درهم منها إلى قنطار من العقل، ويحتاج إلى أصوات ومنابر عاقلة تهدّئ من صوت الجنون الذي انفلت من عقاله الآن. وليس في الأفق ما يوحي بإمكانية لجمه. 
ولذلك، الخسارة التي يوقعها الإعلام بنفسه هذه الأيام سندفع ثمنها من دمائنا حين نحتاج إلى صوت عاقل يسكّن الهيجان. 
أخبرنا معلمنا الكبير ابن خلدون قبل سبعمئة عام عن هذه الأيام وما يؤدي إليها، وأسماها أيام الدهماء، وحذّرنا مما سيأتي بعدها... لم يكن هناك إعلام وفضائيات ومواقع تواصل اجتماعي في أيامه، لكنه شدّد على مسؤولية الفقيه والمُحدّث والخطيب، وساوى بين كلامهم وحد السيف في المسؤولية عن الدماء. نحن في أيام الدهماء، وبدلاً من المحدّثين لدينا مدوّنون لا يعرفون أن كلماتهم وصورهم المتناقلة لها وقع السيوف في الرقاب. ومنها تفوح روائح الدماء الساخنة. 
عملياً، وبجردة حساب مهني لبضعة أيام من عمل الإعلام السوري، والعربي حين يهتم بالشأن السوري، فقد أطلق الإعلام النار على قدميه، وسينتبه لاحقاً إلى عرجه، وعجزه عن اللحاق بالأحداث او بثقة الناس مجدّداً. 
فيما نحن ذاهبون بإرادتنا إلى حتفنا، كنا نحتاج إلى أن يبقى بعضٌ من حفاري القبور والدفّانين ليواروا سوءاتنا، وإلى شاهد يذكّر الجيل التالي بمكان قبرنا. بانجرار كثيرين من عقلائنا إلى جنون جماعاتهم البدائية، خسرنا الحفّار والدفّان. وبفعلة الإعلام هذه خسرنا شاهد قبرنا وشاهدته.

المساهمون