ماذا فعل قطاع غزة في العالم خلال الحرب؟

27 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 09:33 (توقيت القدس)
من المواجهات مع الشرطة في تظاهرة دعماً لفلسطين، كتالونيا 2025/10/15 (ألبرت لوب/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- غزة كرمز للصمود والتحدي: أصبحت غزة رمزًا عالميًا للكرامة والعدالة، حيث أثبتت أن الحق أقوى من القوة، مما جعلها محط اهتمام عالمي ومرآة للوعي الإنساني.

- تأثير غزة على الوعي العالمي: تجاوزت غزة حدودها الجغرافية لتصبح قضية إنسانية كونية، حيث فضحت الأكاذيب وأجبرت العالم على الاعتراف بمظلومية الشعب الفلسطيني، معيدة تعريف الصراع كمعركة بين قوة مدججة بالسلاح ومدنيين عزل.

- غزة وتحدي المشروع الصهيوني: كشفت غزة هشاشة المشروع الصهيوني وأظهرت عدم منطقية التعايش مع إسرائيل، مما وضع مستقبلها على المحك وغيّر المعادلات الأخلاقية والسياسية والإنسانية.

يقول الإمام الشافعي عن شدّة اشتياقه لغزّة "وإني لمشتاقٌ إلى أرضِ غزّةَ، وإن خانني بعد التفرقِ كتماني، سقى الله أرضًا لو ظفرتُ بتربها، كحلتُ بهِ من شدة الشوقِ أجفاني". يقع تحت سؤال ماذا فعل قطاع غزّة في العالم خلال الحرب؟ كثير من العناوين السياسية والقانونية والإنسانية والعسكرية، وحتّى الأدبية والسينمائية؛ بل من المبكر استدعاء كلّ ما فعلته غزّة في العالم ووعيه ورأيه وفكره وممارسته وقناعاته وتحولاته، كلّ ذلك فعلته غزّة، ولعله من الصعب الإحاطة به في عنوان أو مقال واحد.

عامان طويلان مرّا على غزّة مُحملين بالقتل والإبادة، وجرائم الحرب والنزوح، ملايين القصص الإنسانية والصور القلمية سجلتها غزّة ونسختها في ذاكرة العالم، حتّى لم يبقَ ركن في أيّ مكان في العالم لم يستحضر غزّة ويعرفها ويقرأها ويرى مظلوميتها.

قبل الطوفان، أثناء الدراسة الجامعية، كنت أتعجب من أسئلة أصدقاء عرب وأفارقة وآسيويين كانوا يظنون غزّة ولايةً ممتدة الأطراف، بل كان بعضهم يظن أن رام الله والخليل ونابلس والقدس من المكونات الجغرافية والإدارية لقطاع غزّة، لذا عندما تُخبرهم أنّ غزّة سهل ساحلي لا غابات فيه ولا جبال ولا مرتفعات، كما أنّ مساحتها لا تزيد عن 360 كيلومترًا مربعًا (أي نصف مساحة مطار الملك فهد الدولي في الدمام السعودية، الذي تبلغ مساحته 776 كيلو مترًا مربعًا)، كما بإمكانك أن تقطعها من أقصى شرقها لأقصى غربها مشيًا على قدميك، في مدّة لا تتعدى الساعتين، كانوا لا يُصدقون أنّ هذه غزّة التي تُقارع الاحتلال وتتحداه وتواجهه وتقاتل على مدار العام والعالم يترقب.

أثبتت غزّة أنّ إسرائيل كيان لا يؤمن بالسلام ولا بالاستقرار، وبأنّ عقيدة التوحش والاجرام أصيلة وراسخة في فكره وممارسته، كما أنّ التطبيع وهم، والتعايش مع إسرائيل غير منطقي

لا أدري هل اخُتصرت القضية الفلسطينية في غزّة، أم اختصرت غزّة في فلسطين؟ لكن ما أعلمه أنّ غزّة التّي قيل أنّها "لا تصلح للعيش"، غيرت العالم، وتحوّلت من أرض بائسة منزوية مُحاصرة لا يذكرها ولا يتذكرها القريب ولا البعيد إلى أيقونة للكرامة، ورمز للصمود، وقد قيل عنها "غزّة لو بتخاف البحر ما وقفت على الشط".

غزّة لم تختصر القضية الفلسطينية فقط، بل اختصرت العالم كلّه، وأصبحت رمانة ميزان الأخلاق والقانون والعدالة والحرية والإنسانية، غزّة عرّت كلّ الأكاذيب، وفضحت التدليس، وكشفت كلّ الخداع، كما قارعت الأمم المتّحدة ومواثيقها، وعرّت مُشرّعي القانون الدولي، وفضحت مجلس الأمن، وكشفت مراكز القوّة والضعف في النظام العالمي ومكوناته ومحدداته.

غزة مرآة الوعي والانحياز والإنسانية، وقد تجاوزت الجغرافية، فبعد أنّ كانت مُحاصرةً أصبحت تُحاصر العالم، إذ كسرت حدود المكان والقيود ودخلت إلى كلّ بيت، حتّى تحولت من قضية حصار إلى قضية إنسانية كونية عابرة للقومية وللحدود، متجاوزةً إطار القضية الفلسطينية التقليدي، وبدماء أطفالها وجوع كبارها، ومن تحت أنقاضها، وبدمها وجرحها أصبحت تُخاطب العالم ويخاطبها، من كان مع غزّة فهو مع الإنسانية، ومن كان ضدّها أو صمت عنها وانزوى فليعد نظره وفكره في إنسانيته.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

هزمت غزّة الرواية الإسرائيلية، عزلت إسرائيل، وغيرت معادلة الوعي، وأصبحت هي أول الرواية وآخرها، غزّة باتت السردية التي يتداولها العالم على امتداده في أفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا وكندا وأستراليا، غزّة لم تتملك الوعي ومراكز الفعل فقط، لكنها تملكت القلوب، وأبكت وزيرة خارجية آيسلندا أثناء حديثها في الجمعية العامة للأمم المتّحدة عن غزّة ومعاناة أطفالها وظروف حياتهم، وجعلت وزيرة العلاقات الدولية والتعاون الدولي في جنوب أفريقيا تخص أطفال غزّة برسالة وجهتها لهم.

غزّة التّي أجبرت العالم على الاعتراف بمظلومية الشعب الفلسطيني حتّى تداعت دول العالم للاعتراف بالدولة الفلسطينية، بما في ذلك بريطانيا صاحبة الوعد المشؤوم، وربطت القضية الفلسطينية بقضايا العدالة العالمية ومناهضة الاستعمار والتفوق العرقي والتمييز العنصري، باتت غزّة في لحظة معينة تُمثّل وعي جيل شاب عالمي بات يرى في غزّة رمزًا للمقاومة لا مجرد ضحية، غزّة حركت العالم في أوسع وأكبر موجة تضامن شعبي، وتظاهرات واعتصامات لم يشهدها العالم، من نيويورك إلى كيب تاون، ومن الصومال إلى موريتانيا.

غزّة التّي قيل أنّها "لا تصلح للعيش"، غيرت العالم، وتحوّلت من أرض بائسة منزوية مُحاصرة لا يذكرها ولا يتذكرها القريب ولا البعيد إلى أيقونة للكرامة، ورمز للصمود

أعادت غزّة تعريف الصراع بأنّه مواجهةٌ بين قوّة مدججة بالسلاح والدعم والتأييد وبين مدنيين عُزّل، كما أعادت تشكيل مفهوم القوّة في النظام العالمي، وفضحت سلاح الجوع وإمبريالية المساعدات الدولية، ورسّخت الوعي بأنّ الصمت على الجريمة جريمة بحدّ ذاته.

اثبتت غزّة للعالم أنّ الحقّ أقوى من القوّة وأبقى، دُمّرت لكنها لم تهزم، غزّة وبعد تبادل الأسرى، قدمت روايةً أخلاقيةً ستفرض نفسها حتّى لو حاولت إسرائيل إخفاءها، عن المعاملة التّي وجدها أسرى إسرائيل في غزّة مقارنةً بما وجده أسرى غزّة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وتلك أيضًا معركة انتصرت فيها غزّة ومقاومتها.

أعادت غزة بصبرها وثباتها خارطة التحالفات الإقليمية والحوارات الدولية، واثبتت أن الشعوب قادرة على المواجهة، كما أنّ مخططات التهجير والتدمير والترويض ليست قدرًا تُمليه واشنطن وتل أبيب، وأثبتت هشاشة الأنظمة القمعية المغطاة بزيف الديمقراطية، تلك الأنظمة التّي تخشى من تظاهرات واعتصامات الجامعات، وتلاحق الطبلة وتعتقلهم، وتضيق أنظمة الحرية إلى حرية التعبير في فضاءات السوشيال ميديا فقط، لمجرد التعاطف مع غزّة والتضامن مع أهلها.

أثبتت غزّة أنّ إسرائيل كيان لا يؤمن بالسلام ولا بالاستقرار، وبأنّ عقيدة التوحش والاجرام أصيلة وراسخة في فكره وممارسته، كما أنّ التطبيع وهم، والتعايش مع إسرائيل غير منطقي، وبأنّ توصيفها "كيانًا طبيعيًا" في المنطقة غير ممكن وغير موضوعي.

كشفت غزّة هشاشة المشروع الصهيوني ومكوناته وبقائه ومستقبله، وأثبتت أنّها ليست مدينةً محاصرةً؛ بل صفحةٌ حاضرة في التاريخ، لقد فعلت غزّة في العالم ما لم تفعله جيوش، حرّكت الضمائر وفضحت الصمت، وغيرّت المعادلات الأخلاقية والسياسية والإنسانية، ووضعت مستقبل إسرائيل على المحك.

المساهمون