في الذكرى السابعة لوفاته، انطلق منتدىً ثقافيٌ باسمِ الراحلِ، المفكر اليساري الماركسي العربي، سلامة كيلة. الرجل الذي ترك تجربة فكرية غنية عنوانها النضال من أجل قضية بلاده.
استعرْتُ عنوانَ ندوتِه الافتتاحية عنوانٍاً لمقالي هذا تأكيداً على أنّ المنتدى ليس تخليداً لاسم سلامة كيلة فحسب، بل لأن إنتاجَه الفكري الغزير يستحقُّ أن تقرأَه الأجيال القادمة. عرّف سلامة نفسه في مقالاته بـ "العربي الجديد" بـ"كاتب عربي"، وبعد اعتقاله في 2012 بسبب نشاطِه في الثورة السورية، ثم نفيهِ القسريّ من سورية، تنقّل بين الأردن ومصر وتونس، وكان واثقاً من سقوط نظام الأسد، ومن عودته إلى دمشق. إلّا أن مجمَلَ التدخّلات الدولية أطالت عُمر النظام، فيما اشتدّ المرضُ على سلامة وتُوفِّي ودُفن في عَمّان 2018، ورفضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عودة جثمانه إلى بير زيت في فلسطين، وقد أوصى بأن يُدفن هناك. وبعد سقوط نظامِ الطُّغيان في سورية، ودخولِ البلاد في تعقيدات المرحلة الانتقالية، بدأتْ تُطرح أسئلة كبرى حول غياب النخب عن دورها الوطني وحول التشدّد الديني وسيطرة السلفية الجهادية، وعن الأقليات الدينية والعرقية، في مقدّمة الأسئلة يحضرُ سؤالُ الهوية للدولة السورية المنشودة. تستدعي هذه الملفات الكبرى البحثَ والعودة إلى ما كتبه المفكرون والباحثون، ومنهم سلامة كيلة، الذي تناول موضوعات كبرى يصعب عرضُها كلُّها في عجالة هذا المقال.
انتقد كيلة في كتبه الأولى المشكلاتِ التنظيمية، معتبراً أنَّ الأحزاب كانت تدار بعقلية القرون الوسطى. وفي المنهج له كتابان نقديّان هامّان "من هيغل إلى ماركس" و"التفسير المادي للتاريخ"، وأهمية هذين الكتابين في الإجابة عن سؤال: ما الماركسية؟ لتفكيك الذِّهنية المسيطرة، اللَّاهوتية القديمة والمثالية الحديثة، كما يصفها، والتي تَعتبِر الماركسية تصوراً للحياة، أي فلسفة أو نظرية، وبالتالي هو يتجاوز هذا إلى اعتبارها منهجاً يقوم على ما أضافه ماركس إلى الجدل الهيغلي لتصبح هي طريقة وعي الواقع ووعي دور العامل الإرادي فيها، واصفاً أنّ ما فعله ماركس هو "تجليس" هيغل ليقفَ على قدميه بعد أن كان واقفاً على رأسه، ويرفض التحديدات الانتقائية لها (الماركسية السوفييتية، الستالينية، الفلسفة اللينينية) التي تَعتبِر الماركسية مقولاتٍ نهائية تخصُّ الطبيعة والفكر والتاريخ والمجتمع.
راهن سلامة كيلة على الثورة السورية، وشارك في تأسيس ائتلاف اليسار السوري وصحيفة "اليساري"، وكتب مقالاتٍ كثيرة منتقداً نظامَ الأسد واليسار العربي الممانع الدَّاعم له
القضية الفلسطينية والثورة السورية
عمل سلامة كيلة على تأسيس مشروع ماركسي عربي، يجمع بين الماركسية والقومية في إطار نهجٍ ماركسيّ عربي بدأه رئيف خوري وإلياس مرقص وياسين الحافظ وغيرهم، واعتبر أن القضية الفلسطينية قضية كلِّ العرب، وربطَها بالنهوض بالعالم العربي. ورفض التَّمرحل وأوسلو وكلَّ مشروع السلطة، ونظَّر في كتابَيه "المشروع الفلسطيني والمسألة الفلسطينية" و"دولة ديمقراطية واحدة" لحل الدولة الفلسطينية الواحدة، العلمانية الديمقراطية بالضرورة لكلّ القوميات والأديان بمن فيهم اليهود، وراهن في طرحه هذا على دورٍ لليهود العرب في تفكيك دولة الاحتلال، وربطه مع تجاوز التخلُّف العربي والطروحات الطائفية لتيارات الإسلام السياسي، ومع تحقيق النهوض في العالم العربي والذي يقتضي تجاوز الأنظمة الشمولية والرَّجعية الحاكمة والانتقال الديمقراطي والتنمية وبناء صناعة وزراعة حديثتين. لذلك دعم سلامة ثورات الربيع العربي وانخرط فيها.
راهن سلامة على الثورة السورية، وشارك في تأسيس ائتلاف اليسار السوري وصحيفة "اليساري"، وكتب مقالاتٍ كثيرة منتقداً نظامَ الأسد واليسار العربي الممانع الدَّاعم له، وتيَّارات الإسلام السياسي، والتَّمويل، ومُجمل سلوك المعارضة السورية التي راهنت على تدخُّل خارجيٍّ لإسقاط النظام، إذْ كرّر مرّاتٍ أن المجتمع الدولي ليس في وارد التدخُّل لتغييرٍ سياسي في سورية، وله كتاب "ثورة حقيقية.. منظور ماركسي للثورة السورية". ويبحث كتابه "مصائر الشمولية" في طبيعة النظام في مرحلتي الأسدين، الأب والابن، بوصفه نظاماً شمولياً وسلطة استبدادية، ويُشبِه في ذلك الأنظمة التي حكمَتْها حركات قومية عربية، وكلُّها تتسم بطابَعها العسكري أولاً، والريفي ثانياً، كالعراق وسورية ومصر والسودان واليمن الشمالي، فيما كان صعود العسكر تعبيراً عن إعادة ترتيب العلاقة بين الريف والمدينة، وأن النظام هو تحالفُ العسكر مع الطبقة البرجوازية التي دعمته، وبدأ رحلة الانفتاح الاقتصادي التدريجي لكسبِها. ويرى أن الوضع المزري للريف أسَّس لنشوء الميل العام نحو تحقيق الوحدة والتقدم، لكن استلام السلطة سمح بتجاوز الوضع المزري ذاته بتحقيق الطموح الفردي بالارتقاء الطبقي، فتغلَّبَ المشروع الفردي على العام الذي تحول إلى شعاراتٍ، وأصبحت الدولة وسيلةَ نهب. وبذلك يناقش كيلة البعد الطائفي في نظام الأسد ضمن مستوى آخر بربطِه بتزاوج الفقر والتخلف، والرغبة بالتعويض عن الاضطهاد والاستغلال الطبقي، والتي استُخدِمت في إعطاء السلطة وجهها الوحشي.
سؤال الهوية
فرّق سلامة كيلة في كتابه "الهوية والقومية والحداثة" بين القومية (العربية) بوصفها مسألة واقعية والقومية باعتبارها إيديولوجيا وصَفَها بالمثالية والرومانسية التي تقوم على الحدْس، ورأى أن انتصار المسألة القومية يتطلَّب التصارع مع الفكر القومي وتفكيكه، وعاد إلى مسألة التَّشكيل السياسي الذي تبلور منذ بداية القرن العشرين بأنَّ هناك دولاً في حدود الوجود القومي، وأصبحت الدولة/ الأمة حلماً بين أفراد، يجمعُها تاريخ شعبٍ وشعورٌ بالترابط والأمل في الوحدة. وانتقد التيَّارات التي تعمل على تشكيل الدولة القُطرية في أمَّة، وفنَّدها معتبراً أنَّها تعبِّر عن ميل انكفائي في مواجهة المدّ القومي الذي حكم منذ انقلاب جمال عبد الناصر في مصر في 1952، ورفضٌ ارتداديّ نتيجة ممارسات النظم التي حكمت باسم القومية. ويرى أنه ليس من الممكن بناء دولة ديمقراطية دون اكتمال ترابط الهوية، ودون العلمَنة، وهذا نقاش في عمق معنى الحداثة ذاتها في صيرورة تشكُّل الوعي الحداثي.
يستحق سلامة كيلة أن يُخلّد اسمه في كلّ المنطقة العربية، وقد اختير منزلُه في مساكن برزة بدمشق مقرّاً لجمعية المُنتدى
الطائفية والأقليات والإسلام السياسي
وفي رصيد كيلة الفكري الكثير حول نقاش الطائفية ومسألة الأقليات في الوطن العربي؛ إذ اعتبر أن هناك خلطاً في مسألة الأقليات لتشكل الطوائف والأديان والقوميات والقبائل، فزاوية النَّظر القائمة على منظور ديني لا تلحظ ما هو قومي، وتُدخِلُنا في صراعات التاريخ بين رؤية الأغلبية (السنية) لهذه الأقليات، ورؤية الأقليات لهذه الأغلبية، في علاقة صراعيَّة تصل إلى حدَّ التكفير، وبالتالي نحن نعيد إنتاجَ تناقضات الماضي في حاضرٍ تجاوَزَها. في حين أن زاوية النظر الحداثية (ليبرالية أو ماركسية) فتتجاوز المنظور الديني إلى تحييد الدين عن الدولة والتعامل مع الأديان بتساوٍ يحوِّلُها إلى توضُّعات مجتمعية خصوصية وأفرادٍ يمارسون معتقداتهم دون التدخُّل عبرها في المجال السياسي.
كتب سلامة في 2015 مقالة في مجلة الجديد بعنوان "من نقد السماء إلى نقد الأرض"، ناقش فيها الميل الجارف الذي يجتاح اليسار والليبراليين إزاء "نقد الدين" باعتبار أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة، بكلّ التطرف الذي يحكُمُها، هي نتاج الدين. لكنه يرى أن الدين ليس من يُنتجُ التعصُّب، بل الواقع، واعتبر هذه النزعة هروباً إلى نقد السماء بدلاً من نقد واقع التهميش والبطالة الذي يدفع كلَّ هؤلاء الشبان إلى اللجوء إلى الإسلام وسيلة للتعبير "السياسي"، معتبراً أن الحركات الإسلامية دون سياسية، لأنها تنطلق من الفقه، والفقه دون السياسة؛ وبعد انهيار اليسار والشيوعية، لم يَعدْ في السوق غير الإسلام السياسي، واعتبر أن الجهاد الإسلامي اختراعٌ أميركي للرَّدِّ على السوفييت في أفغانستان. برأيه، لمعالجة المشكلة يجب نقد الواقع وليس الدين، والظروف التي تجعل الطبقات المسيطرة تستغلُّ الدين من أجل تشويه الصراع الطبقي.
يستحق سلامة كيلة أن يُخلّد اسمه في كلّ المنطقة العربية، وقد اختير منزلُه في مساكن برزة بدمشق مقرّاً لجمعية المُنتدى، حيث مكتبتُه الضخمة والغنية ستكون متاحةً للقراء والباحثين، وحيث ستُعقد ندوات دورية بطابع ثقافي دون قيود إيديولوجية، ولكنَّها تمسُّ قضايانا الراهنة. بانتظار نشوء أجيالٍ تتجاوز منطق أرسطو الثنائي، السائد بين النخب، إلى تبنّي المنهج الماركسي القائم على نفي النفي (التركيب) لفهم الواقع وتحليله، والعمل على تغييره، وعلى أمل أن تولد إغناءاتٌ فكرية تقدِّم نقداً لما كتبه سلامة كيلة، وللمنهج الماركسي، وربما تتجاوزُه إلى ما هو أرقى.