استمع إلى الملخص
- التحولات السياسية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد أثرت على التراث، مع قلق حول مصير المتاحف والآثار، لكن تصوير برنامج "سرّ في المتحف" جلب بعض الطمأنينة بشأن سلامة الآثار.
- تدمر فقدت معالم أثرية هامة بسبب "داعش"، ومصير الملكة زنوبيا بقي غامضاً، لكنها خلدت كملكة طموحة، وتبقى قصتها جزءاً من الإرث التاريخي.
كان الطريق من دمشق إلى تدمر وبالعكس مقفراً كئيباً، ففي الأصل هو قليل العمران، معدوم الأشجار، وهو بوابة الصحراء السورية، فكيف إذا تناولته الشائعات من حيث وجود قطّاع الطرق وبقايا تنظيم "داعش". كانت النصائح تتوالى: "لا تذهب إلى تدمر وما عساك ستجد؟ الآثار مدمّرة، التماثيل مقطوعة الرؤوس، معبد كبير آلهة تدمر (بل) تم تفجيره، المتحف مغلق. أين ستنام وفريقًك؟ لا فنادق والكهرباء والماء مقطوعة. أيضا لا تنسى لا توجد مطاعم مفتوحة".
أعرف ذلك، ولكن هنا الهدف: أن تتفقّد آثار تدمر وملكتها زنوبيا بعد أن أصابها عدوان "داعش" وجرائم نظام الأسد وحليفيه الروسي والإيراني. مع سقوط نظام الأسد، بدأت وسائل الإعلام من مختلف أنحاء العالم تتسابق إلى دمشق لنقل الخبر السوري الصاعق بنتائجه، وتأثيراته. كان العالم يتابع، عبر جميع الشاشات، أخباز سجن صيدنايا وتحرير المساجين منه ومن أماكن الاعتقال المتعدّدة في سورية، وكان الانشغال ينصبّ على فهم آليات ومجريات السقوط السريع للأسد ومصيره ومصائر أركان حكمه.
كما ركّز الإعلام على أركان الحكم الجديد وكشف أسمائهم وفصائلهم وتفكيرهم واختلافاتهم، ولا سيما أن الكثير من الأسرار والغموض قد اكتنف سيرتهم ومسيرتهم. كان الجميع مشغولاً بانتقال سورية من حكم الأسد إلى هيئة تحرير الشام، وبانتقال زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني إلى الرئيس أحمد الشرع. غاص الجميع بفرحة الخلاص من حكم بشّار الذي يكاد يجمع السوريون أن لا بواكي عليه.
شاركتُ بهذا الاحتفال وعدت إلى سورية بعد غياب حوالي 11 عاماً، وكنتُ أحسب نفسي أنني لن أرى سورية ثانية، حيث كانت أكثر من مذكّرة اعتقال تنتظرني. أجريت عدّة مقابلات لاقت رواجاً وحصدت إعجاباً وذمّاً، ولكنها ساهمت في النقاش السوري، والذي يصل أحيانا إلى حد الصراخ في حمّام مقطوعة مياهه حسب التعبير الدارج.
طلبت إنجاز حلقاتٍ عن متاحف سورية بإلحاح، فهناك من يريد الاطمئنان على متاحف البلد وآثاره وتراث البلد وهذا القطاع جدير بالتفقد كما غيره من القطاعات.
كانت الإجابة تتوالى بالاعتذار لكون المتاحف مغلقة وتحتاج لجرد محتوياتها، وكنت أخشى أن يتعدّى الأمر ليتصل بالأيديولوجيا الإسلامية التي تحملها القوى المحرّرة، وصولاً إلى منع عرض التماثيل واللوحات وإغلاق المتاحف.
لم تكن مخاوفي في محلها حتى هذه اللحظة على الأقل، وقد حصلتُ في الزيارة الثانية على الموافقة بتصوير برنامجي "سرّ في المتحف" الذي يُعرض على قناة العربي 2 من وزارتي الإعلام والثقافة لمتاحف دمشق، وحلب، ومعرة النعمان، وتدمر.
طمأنني القائمون على مديرية الآثار والمتاحف أن لا سرقات حصلت من المتاحف يوم سقوط النظام سوى في متحف جزيرة أرواد بطرطوس وفي متحف قلعة دمشق، وكانت معظم السرقات لنسخ مقلدة وقطع الأثاث ومحتويات المتحفين المكتبية.
وصلنا إلى تدمر وهي خاوية على عروشها، بضع عائلات من السكان عادوا، كل الدوائر والمحلات مغلقة، حتى سجن تدمر العتيد لا أحد فيه ولو للحراسة، والمتحف الذي افتُتح عام 1961 في أثناء الوحدة السورية المصرية يحرُسه موظف واحد، متسخ ومهمل، وقد تعرّض لصاروخ من النظام وقبل ذلك كان مسلّحو "داعش" قد حوّلوه إلى مقر لهم، وحطموا رؤوس التماثيل فيه. وأصدر التنظيم المذكور منه أحكام الإعدام، ومنها حكم الإعدام بالعالم الآثاري المهيب خالد الأسعد.
إنقاذ آثار وإعدام الأسعد
صحبنا من دمشق مدير متحف تدمر السابق خليل النعيمي، وروى لي ما حدث يوم هجوم "داعش" على المتحف، حيث استطاع أن يحمل ثلاث شاحنات بالقطع الأثرية ويهرّبها إلى دمشق، رغم إصابته بطلق ناري من عناصر "داعش".
وحدثني من أثق بهم أن هجوم "داعش" على المتحف جرى بالتنسيق مع رئيس فرع الأمن العسكري في البادية، مالك حبيب، والذي رفض مقترحا لتفريغ المتحف قبل أيام مصرّاً على أن لا شيء سيحدُث. وكان في رفقتنا طارق الأسعد الذي روى لنا بعضاً من مأساة والده خالد الأسعد الذي 40 عاما مديراً لمتحف تدمر (1963 - 2003). وربما من النادر أن تعثر على مكتشف أثرى يتعلق بتدمر إلا كان مساهماً فيه، وألف أكثر من 40 كتابا بلغات مختلفة، كان يتقنها عن آثار تدمر وملكتها زنوبيا.
لم تحكم زنوبيا سوى فترة قصيرة، حوالي خمس سنوات، إلا أنها خلدت اسمها في سجل التاريخ كملكة طموحة
حكم "داعش" على الأسعد بقطع رأسه، وعلّل هذا بعبادته الأصنام وتمثيله الحكومة السورية، وبينما كان السبب الحقيقي طلب "داعش" من الأسعد أن يدلّهم على أماكن الذهب في تدمر. كانت أمنية الأسعد الأخيرة من "داعش" أن يزور متحف تدمر، وكان له ذلك. وعندما طُلب منه الانحناء لتنفيذ الحكم، رفض قائلاً إن "نخلات تدمر لا تنحني"، ونفذ الحكم فيه في 18 أغسطس/ آب 2015.
فقدت تدمر معبد "بل" بتفجير "داعش" له. وجرى أيضاً تخريب معبد "بعل شمين"، فضلاً عن قطع رؤوس التماثيل في المتحف وفي الفضاء الخارجي لتدمر. وتُضاف تلك الخسارات إلى ما سرقه لصوص الآثار من حفريات غير مشروعة. وقبلها تسرّب كثير من آثار تدمر إلى الخارج، وأهمّها اللوحة المهمة لقانون الجمارك التدمري، وهو أطول وأدقّ نص قانوني جمركي بزمانه والمعروضة حالياً في متحف "الأرميتاج" في بطرسبورغ، إذا نقله الأمير الروسي ابملك لازاريف عام 1901 من مدخل السوق الجارية التدمرية المسماة بالأغورا إلى روسيا بموافقة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.
أين زنوبيا؟
لن تجد عند البحث في آثار تدمر أي تمثال أو أثر يعود إلى ملكتها العظيمة زنوبيا سوى قطعة نقد من أربعة دراهم عليها صورة زنوبيا ومكتوب عليها "الملكة المعظّمة"، وهذه النقود سكّتها زنوبيا في الإسكندرية خلال سيطرتها على سورية والجزيرة العربية ومصر. السبب في غياب تماثيل زنوبيا هزيمتها أمام الإمبراطور الروماني أورليان عام 273 ميلادية، وهذا قدر المغلوب دوما.
لم تحكم زنوبيا سوى فترة قصيرة، حوالي خمس سنوات، إلا أنها خلّدت اسمها في سجل التاريخ ملكة طموحة، صاحبة مشروع للنهوض بمملكتها، ترفض التراجع عنه و/أو الاستسلام عندما تنتهي المعركة.
لقد أوضح خالد الأسعد في كتابه "زنوبيا ملكة تدمر والشرق"، والذي أصدره مع فيين هانسن عن جامعة أورهوس بالدانمارك، أن زنوبيا وتدمر والمنطقة قد علقت بتلك الفترة في الصراع بين الروم والفرس وكانت تميل إلى الرومان. وهنا يذكر جهد أذينة زوج زنوبيا مع كاهن حمص شمسي غرام بالانتصار على حملة الفرس بقيادة الملك الفارسي سابور الأول الذي استحقر هدايا أذينة وسعيه إلى التحالف معه، فانضم للروم ضده وهزمه.
قتل أذنية في صراع داخلي على السلطة، وحلّ محلّه ابنه القاصر وهب اللات، ولكن تحت وصاية والدته زنوبيا. كانت زنّوبيا طموحةً، فلعبت على الخلاف الفارسي – الروماني، واستغلّت صراعات البلاط الروماني، فأضافت مصر لمملكتها السورية. وهنا كان لا بد من المواجهة مع الرومان. حاول الإمبراطور أورليان أن يقنعها بالاستسلام فرفضت، وأرسلت إليه جوابها: "لا تنتظر استسلامي، وإذا كان الأرجوان هو لباس الأباطرة فإنه عندنا خير الأكفان".
هزمت قوة روما طموح تدمر، وبقي مصير زنوبيا غامضاً، فمن قائل إنها ماتت أسيرة على الطريق إلى روما، بسبب الغضب والأسى من هزيمتها، أو أنها تجرّعت السم خلال سيرها مكبّلة بالأصفاد، في حين ترد رواياتٌ أخرى أنها عاشت بقية حياتها معزّزة مكرّمة في روما، واقترنت بنبيلٍ روماني وأنجبت ذرّية منه.
اختفت مملكة تدمر واختفى مصير زنوبيا، وأملنا كأحفاد لهذا الإرث العظيم ألا نجدّد المأساة مرّة أخرى بالضياع والزوال.