ذاكرة الأعياد التي لا تطوّقها المراسيم

14 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 11:30 (توقيت القدس)
الحاكم العثماني لبلاد الشام جمال باشا (السفاح) يتجول في دمشق (17/7/1917 Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت سوريا انتصار الثوار على الاستبداد، حيث تخلص الجنود من ملابسهم العسكرية احتفاءً بالنصر، مما يعكس تضحيات الأبطال في حرب تشرين وشهداء 6 أيار.
- أثار المرسوم الرئاسي رقم 188 لعام 2025 جدلاً بإلغائه أعياداً وطنية مثل عيد الشهداء، مما يُعتبر مساساً بالذاكرة الوطنية، ويُنظر إليه كخطوة نحو صياغة سردية جديدة للدولة.
- يرى السوريون أن إلغاء عيد المعلم لن يرفع من قيمته، بل يجب تحسين أوضاعه، ويطالبون بيوم للاحتفاء بالربيع لتعزيز الوحدة الوطنية.

قُدّر لي أن أشهد بأم عيني حدثاً تاريخياً تتناقض فيه المشاعر بين الفرحة بانتصار أبنائنا وإخوتنا من رجالات الثورة، على سلطة الاستبداد. 

بين الأسى من مشهد أبنائنا وأخوتنا من أفراد الجيش العربي السوري المنهار، وهم يتخلصون مِنْ ملابسهم العسكرية وعتادهم الحربي، برميه وحيداً، من دون أسف، على أطراف الطرقات العامة، وحاويات القمامة في شوارع المدن وأزقتها الفقيرة، وكأنهم أرادوا بهذا التصرّف الاحتفاء بهذا النصر العظيم مع أخوتهم في الجبهة الثانية، فهل يستطيع أي قرار صادر من جهة رسمية محو هذا المشهد من ذاكرتنا الجمعية، أو ترجيح كفّة الفريق الأول والاحتفاء بيوم نصره، لصالح الابتعاد عن الذاكرة التي كانت تجمعنا في رؤيتنا إلى البطولات والتضحيات التي قدّمها في حرب تشرين (1973)، وهل من أحد يستطيع فصل الخيط السرّي الذي يربط أرواح هؤلاء الأبطال مع أرواح شهداء 6 أيار (1916)، ومن سار على خطاهم من المناضلين في سبيل الحرية والكرامة لتسجل الفوز أخيراً، على من كان يسرق تلك الانتصارات لصالح كرسيّه المصفح بشعاراتٍ تطاول رقبة كل من يعارضها.

يطالب ناشطون بتخصيص يوم عطلة للاحتفاء بالربيع، فمعظم السوريين يحتفلون بهذا العيد تحت أسماء مختلفة

أثار المرسوم الرئاسي رقم 188 لعام 2025 القاضي بإلغاء أعياد: حرب تشرين، الشهداء، المعلم، جدلاً واسعاً في الوسط الشعبي في العموم، حيث رأى كثيرون إلغاء عيد الشهداء مساساً بمسيرة النضال الوطني ضد الاستبداد، وصدمة وجدانية موجّهة في رمزيتها ضد الذاكرة السورية، كون هذا العيد يخلد إعدام مجموعة من رجالات الفكر والسياسة والدين من السوريين واللبنانيين بحبال مشانق جمال باشا (السفاح) في 1916 الذين دانتهم محاكمه العرفية بتهمة المؤامرة على وحدة أراضي الخلافة العثمانية، الذين هم جزءُ منها، والتعاون مع فرنسا وبريطانيا، لتنفيذ أهدافهم الانفصالية المتقاطعة علناً مع أهداف العدو في الجناح الآخر إبّان الحرب العالمية الأولى، بينما هم ليسوا سوى نخب مثقفة ممن عشقوا الوطن، فصبوا جام غضبهم على الاستبداد، ساعين من خلال تحالفهم السرّي إلى إنقاذ هويتهم العربية من الاندثار، حتى أنهم ضحّوا بأنفسهم من أجل هذا الهدف السامي، فإذا كان الهدف من إلغاء عيد الشهداء إرضاء الحليف التركي للدولة الجديدة، فإن الدولة التركية العلمانية، مطالبة أيضاً باعتبار مؤسّس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، من الذين ساهموا تحت أي مسمّى بإسقاط الخلافة الإسلامية، فهو أحد مؤسّسي النزعة القومية التركية، وقاد، مع زملاء له من الضباط في الجيش العثماني، الانقلاب الذي أسس للجمهورية التركية الحديثة، ولم يكن شهداء 6 أيار من العرب خارج هذه النزعة القومية التي سادت في عموم أراضي الخلافة، بفارق أن روّاد حركة التحرّر العربية، تأخر تحقيق حلمهم إلى ما بعد التحاق أرواحهم الطاهرة بدار الخلود، بينما استطاع أتاتورك إنقاذ أبناء قوميته من التشرذم والضياع في مشاريع الدول الخارجة من الحرب العالمية الأولى بزهو المنتصر.

عيد 6 تشرين من أملاك السوريين الحصرية لنعبث بذكراه، مثلما هو ليس من أملاك حافظ الأسد الذي استغلّ نصر الشعب السوري ليتمكّن من استعباد طاقاته

في السياق نفسه، يرى آخرون أن إلغاء عيد الشهداء من قائمة الأعياد الرسمية ما هو سوى خطوة أولى نحو صياغة سردية جديدة للدولة الحديثة. إلا أن هذا العنوان – الرأي يبدو فضفاضاً، فمفرداته تحمل احتمالاتٍ كثيرة يمكن أن تؤسس لسردية تصادمية مع الذاكرة السورية، التي نحن في أشدّ الحاجة إليها لجمع شمل البلاد والعباد تحت سقف الوطن، وخصوصاً أن القرار نفسه استبعد حرب تشرين (1973)، الحرب الأولى التي جرى فيها إحراق "أسطورة جيش إسرائيل الذي لا يقهر"، بالمشاركة مع جيوش عربية شقيقة، قدمت دماءها لتحقيق هذا الانتصار. وبالتالي، ليس هذا العيد من أملاك السوريين الحصرية لنعبث بذكراه، مثلما هو ليس من أملاك حافظ الأسد الذي استغلّ نصر الشعب السوري ليتمكّن من استعباد طاقات هذا الشعب الجبار وخيراته الطبيعة واستنزافهما عقوداً، ولن يرضى أحداً من السوريين بمحوه من ذاكرتنا تحت أية ذريعة، لا بل إن القيادة السورية الجديدة مطالبة بالعمل على تخليصه من الشوائب الدخيله عليه، وإحلال سردية تعيد الحقوق الوجدانية المسلوبة إلى أصحابها. ولنا في القيادات المصرية التي تعاقبت بعد أنور السادات أسوة حسنة. أما إذا كان إلغاء ذكرى الانتصار الذي تحقق بحرب تشرين من باب محاباة العدو الصهيوني، لمداراة ضعفنا الراهن، فإن هذا العدو الذي ما زال يمارس التنمر على الشعب السوري وأرضه، لن يكون لهذا الإلغاء أية قيمة لدية، سوى ظهورنا أمامه أننا على استعداد لمحو ذاكرتنا من أجل عزته! 
وبخصوص عيد المعلم، يرى الشعب السوري بمختلف فئاته وطبقاته أن رفعة قيمة المعلم ورد الاعتبار الذي سلب منه على مدى العقود التي سبقت انتصار الثورة لن يكون بإلغاء العيد الذي أسس للاحتفاء به، وإنما بمنعه من التسوّل على أبواب طلابه تحت ذريعة الهدايا التي تقدّم له في هذا العيد، أو الدروس الخاصة لأبناء من لا يرون في العلم والتفوّق سوى إطار مهذّب لتزيين صورهم التي تخفي انتهاكات إنسانية كثيرة تطاول حتى هذا المدرّس المتعب. أما من كان انتماؤه لطبقة الفقراء الذين لا بد وأن يقطعوا من زادهم لتعليم أبنائهم، فالمتهم أمامهم هو المدرّس المقصّر في أداء واجبه، وهو نفسه الذي يتبادل وإياهم الأدوار على طبق الألم والأمل المفقود، الذي كان يستخدم بوصفه أحد الأسلحة الفتّاكة التي تبنتها دولة البعث لاستجداء الولاء المقنّع بالخوف، وليس هناك من شك في أن الدولة الحديثة قد غفلت عن هذا الموضوع، فقد حاولت استدراك هذا الموات التعليمي، الذي أمه في الماضي المعلم  الفقير مجبراً، فأسرعت برفع الخط البياني لراتبه الشهري ليتجاوز في صعوده زملاء له من الفئة نفسها يشغلون وظائف أخرى خارج قطاع التعليم، إلّا أن هذا الإجراء لن يعطي للدولة الحقّ بأن تسلب منه العيد.
في السياق، يطالب ناشطون بتخصيص يوم عطلة للاحتفاء بالربيع، فمعظم السوريين يحتفلون بهذا العيد تحت أسماء مختلفة، وتواريخ متفرّقة، لكنها قادرة على أن تجمع السوريين، مثلما تجمعهم الأعياد الدينية، فالعيد، أي عيد، ما هو سوى استعادة لحدث من الماضي قادر من خلال تناقله في الذاكرة الجمعية على جمع شمل الأمة على طبق كريم، وأمل مستدام، ونداء واحد في مواجهة الشر، ولا أحد يظن أن الأعياد الوطنية لا تحمل الهدف نفسه، وإذا كان هناك خطأ ما يجعلنا نعتقد أن تكريسها يفرّق السوريين فإن الخطأ الحقيقي في السردية فقط.

المساهمون