استمع إلى الملخص
- تفاقم الخطاب الطائفي في سوريا يعكس غياب السياسة كمساحة مشتركة، مما يستدعي قانون أحزاب يعيد تعريف السياسة كوسيلة لحل النزاعات.
- سنّ قانون جديد للأحزاب يمكن أن يحول الانتماءات الضيقة إلى برامج سياسية، مما يعزز الثقة في التغيير عبر السياسة ويقوي مناعة المجتمع ضد الطائفية.
منذ اتخذت السلطة الحاكمة الجديدة برئاسة أحمد الشرع قراراً بحلّ جميع الأحزاب السياسية، وجدت سورية نفسها أمام فراغ سياسي خانق يشبه الجسد المريض، الذي ضُرِبَ في جهاز مناعته، فزادت حدّة المرض وساء حال المريض. بعد هذا القرار أُزيحت السياسة تماماً عن المجال العام، فحلّت مكانها الهويات الطائفية والمناطقية والقومية، لتتحوّل إلى أدوات تعبير بديلة عن الغياب الكامل للتمثيل السياسي. على هذه الخلفية، تفرض عملية سنّ قانون جديد للأحزاب اليوم نفسها بمثابة الدواء المضمون لاستعادة توازن الجسد الوطني السوري.
كشفت الأشهر الأخيرة عن عمق المرض الطائفي واستفحاله ومدى خطورته في الخطاب السوري، فالمعارضة التي تتشكل اليوم تتشكل وتولد في ظل انعدام الحياة الحزبية، وقد اتخذت، في أحيانٍ كثيرة، طابعاً هويّاتياً طائفياً بحتاً. رأينا أصواتاً معارضة تنطلق من الطائفة العلوية لتعلن رفضها السلطة، لكنها بقيت أسيرة لغة الدفاع عن “المكوّن” لا عن الوطن. وفي المقابل، ارتفعت أصواتٌ من الطائفة الدرزية تركّز على مظلومية الجبل ومصير الطائفة، فيما تحاول بعض القوى من المكوّن الكردي التعبير عن مطالبها القومية بمعزلٍ عن الإطار الوطني الجامع. حتى بعض الأصوات المؤيدة للسلطة الجديدة والرئيس الشرع باتت تلجأ إلى خطاب طائفي ديني لمواجهة خطاب المنتقدين والمعارضين، معتقدة أن سبب (ومبعث) نقد السلطة الجديدة هو المواقع الطائفية للمنتقدين وليس الموقف أو الخلاف السياسي. وإن دلّ هذا كله على شيء فإنه يدل على غياب السياسة مساحة مشتركة تجمع المختلفين داخل مشروع وطني واحد.
إن ضرورة وجود قانون الأحزاب اليوم ليست مجرّد عملية تنظيم قانوني للإطار السياسي، بل هي بمثابة العلاج البنيوي الناجع للمسألة الطائفية. فكما يحتاج الجسد المريض إلى دواء يضبط عمل أعضائه ويمنعها من مهاجمة بعضها بعضاً، تحتاج الدولة السورية اليوم إلى حياة حزبية تنظّم الخلافات وتحوّلها من صراعات هوية إلى منافسة برامج. ليست الأحزاب هنا وصفة تجميلية، بل علاج جذري يعيد تعريف السياسة على أنها وسيلة لحلّ النزاعات لا تفجيرها.
فبمجرّد أن تُفتح أبواب العمل الحزبي الحر ستتغير خريطة الانتماءات، ليس بمعنى أن تتغيّر الانتماءات، بل بمعنى أن يتخذ التعبير عن الذات سياسياً تعريفاً سياسياً، وليس طائفياً أو قومياً أو مناطقياً. سيتحوّل الخطاب من لغات الانتماء الضيّق إلى لغة المصالح العامة. فبدلاً من “نحن الطائفة المظلومة” سيُقال "نحن الحزب الذي يسعى إلى العدالة الاجتماعية"، وبدلاً من "حقوق الجبل” أو “حقوق القومية”، ستُطرح برامج تتحدّث عن العدالة، والدولة المدنية، والتعليم والاقتصاد والثقافة وغيرها. هكذا يتحوّل القانون إلى دواء سياسي يضبط حرارة الانقسام، ويعيد للسوريين ثقتهم بقدرتهم على التغيير عبر السياسة لا عبر الطائفة.
صحيحٌ أن هذا الدواء لن يحقق الشفاء الفوري، فالأمراض المزمنة تحتاج زمناً وصبراً، لكنّ عدم تناوله يعني استمرار التدهور حتى الانهيار الكامل، فغياب الأحزاب يعني غياب الأمل في الحوار، وغياب السياسة يعني استمرار الحرب بأشكال أخرى.
سورية اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تستمر في إدارة الانقسامات بالإنكار، أو أن تواجهها بالسياسة والمؤسّسات. والاختيار الصحيح أن تعود السياسة لتكون لغة السوريين المشتركة، عبر قانون أحزاب حرّ وعادل يعيد للدولة توازنها وللمجتمع عافيته. فالحياة الحزبية ليست رفاهية، بل هي الدواء المضمون لبناء مناعة وطنية ضدّ الطائفية والكراهية، ومن دون ذلك، قد تكون هناك أيام سيئة أُخرى في انتظارنا، تشبه ما حصل في هذه المنطقة أو تلك.