استمع إلى الملخص
- يعرض الفيلم تناقضات حياة الجلادين، مثل الطبيب السوري الذي مارس التعذيب ثم عمل في مستشفيات ألمانيا، مما يثير تساؤلات حول الهوية والعدالة.
- فاز الفيلم بالسعفة الذهبية في مهرجان كان 2025، لدعوته للتفكير في كيفية التعايش مع الجلادين بحرية، بعيدًا عن الانتقام، مع التركيز على رؤية الحقيقة.
قد لا يكون هذا حديثاً عن السينما، أو ربما ليس حديثاً عن السينما فقط. لكن ماذا ستفعل لو شاءت الحياة والتقيتَ جلادَك؟ ربما لن يكون هذا سؤالاً مألوفاً لمن يسكنون في عالم لا يشبه عالمنا، لكنه سؤال مشروع وقابل للحدوث، وقد حدث بالفعل لنا نحن الذين نحمل فوق أرواحنا وفي حدقات أعيننا آثاراً وروائح وحكايات لبلدان تبدأ بتعدادها ولا تنتهي. نقول سورية، العراق، إيران. الحكاية عن جلادين يعيشون بيننا. لهم آباء وأمهات، يتزوّجون ويمارسون الحياة كاملة، يلدون أطفالاً ويحبونهم أيضاً.
في فيلمه الأحدث It Was Just an Accident "كانت مصادفة، لا أكثر"، يطرح جعفر بناهي، المخرج الإيراني، السؤال الذي يخطر في بال كل معذّب: ماذا لو التقيتُ مَن تفنّن في تعذيبي، ماذا سأفعل به؟ شخصيات الفيلم تخوض الحوار عنك، تقدّم مقترحاتها وصراعاتها وأسئلتها حول الضمير والأخلاق والانتقام والاعتذار. الفيلم عظيم فكرياً وجمالياً وسينمائياً، لكن ما استوقفني هو فكرة نمت على حافة مشاهدتي له. الجلاد في الفيلم يمثل عضواً في جهاز الأمن الإيراني، شارك في حرب بلاده إلى جانب النظام السوري، وفقد ساقه هناك لذلك السبب.
الفكرة التي نمت وتجذّرت كانت كالتالي: للأنظمة سكانها ومواطنوها، وللمضطهدين هوية لا يمكن إلا التعرف عليها مهما حملوا من جنسيات مغايرة. سيلتقي جلادو هذا الكون حول مبادئ معرّفة تنجيهم، وسيبقى لمن دغمهم التعذيب ملامح لا يمكن إلا تمييزها، فالعالم ينقسم بين ظالم ومظلوم، بين متخم وجائع، بين فاسد وأخلاقي.
فتح الفيلم الباب للحياة خارجه، استدعى أن نعيد ترتيب الأسئلة. ليس لأن السينما عاجزة عن الإجابة، بل لأنها تمنحنا لغة لاختبار ما نخشى تسميته. اللقاء بجلادك ليس حدثاً شاذاً في عالمنا المقلوب. هو احتمال يومي في الشارع، في الفرن، في مكتب الهجرة، في ندوة عن حقوق الإنسان يجلس فيها القاتل في الصف الأول بصفة خبير عسكري. تتبدّل الأقنعة بسرعة، يتحوّل الرجل الذي استباح أجسادنا إلى مواطن عادي، تمرّ به في الصيدلية أو في ورشة لتصليح السيارات أو في مشفى، كالطبيب السوري الذي الْتَقاهُ مَن عذبهم، وهو يمارس إنسانيته "المنسيّة" في أركان مشفى حمص العسكري، متذكراً إياها بحذافيرها في مستشفيات ألمانيا.
ربما أعرف هذا الطبيب، وربما أخجل أن أقول إنه من قريتي الهاجعة الآمنة، المحمّل شعبها بالطيبة وبرائحة البخور، وبطعم البرد والفقر المتراكم عبر سنوات من العزلة والخوف. ربما مرّ بي ذات يوم في عرسٍ رقص فيه، أو صافحني مصادفةً في عيد ما، أو لعلّي عرفت والدته، أو أخته، في حال أصرّ أبناء عمومتي على تتبّع نسبه. ربما...
ليس عن عبثٍ أن حاز الفيلمُ السعفةَ الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2025، لأن الفيلم لا يسأل كيف ننتقم، بل كيف نعيش بعد أن رأينا وجوه جلادينا تتجوّل بلا عقاب. تلك المفارقة التي يحفرها بناهي بوعيه الإنساني العاري لا تنتمي إلى إيرانيته الخالصة، بل إلى انحيازٍ أوسع إلى الإنسانية كلها. تسأل سؤالاً معقداً حول النجاة من بشاعة الواقع، حتى لو أننا لم ننجُ من الجلادين. إنهم بيننا، يتحرّكون بعنجهية من دون أن يغيّروا أسماءهم، ينتقلون إلى مدنٍ أكثر أماناً ربما، يربّون أبناءهم على الخوف الذي ربّونا به ربما. لكن ما يطلبه الفيلم، وما يطالبنا به ضميرنا، في المقابل، هو أن نتعلّم أين ننظر، من دون أن نحدّق بعين الانتقام، بل أن نرى الحقيقة كما هي. تتشابه الأنظمة في كل مكان وزمان، والمظلومون أيضاً.