بحثاً عن الجنون

04 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 08:45 (توقيت القدس)
(حسين ماضي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعبر النص عن حالة الحزن والضياع التي يعيشها الكاتب، مستخدمًا رمزية النوافذ المحطمة والجنون للتعبير عن الفوضى منذ عام 2011، ويصف أمه كوطن غارق في جراحه، مما يعكس شتات الشعب السوري.
- يتناول النص معاناة الشعب السوري عبر احتمالات مصير الأم، التي ترمز إلى سوريا، متخيلًا وجودها في مناطق مختلفة تحاول حماية أبنائها وتخفيف المعاناة، مما يعكس الأمل في عودة سوريا رغم الأخبار المروعة.
- يختتم النص بتأملات حول الوطن والانتماء، مستشهداً بتشي جيفارا، معبرًا عن ارتباطه العميق بوطنه، طالبًا من النوافذ الجنون لمداواة جراح سوريا، مما يعكس الصراع بين الأمل واليأس.

يقول سانشو لدون كيشوت فيما يحتضر: "أكبر جنون يمكن للإنسان ارتكابه أن يدع نفسه يموت من دون أن يقتله أحد، ومن دون أن يجهز عليه الحزن". أتأمّل في العبارة، بينما أفتح نوافذ بيتي للجنون. نوافذي محلّيّة الصنع ولم تأبه برغبتي يوماً. ومنذ العام 2011، نوافذي المشرعة للخواء الكالح، تتحطّم كلّ حين، وبالدماء تنخبص. في كلّ مرّة أعيد إصلاحها وأفتح درفاتها، يعند الجنون في الغياب، ويعند التحطيم وسيل الدماء في الحضور. قبل أن يغلق الضجر الموجوع نوافذي، أرنو إلى أمّي سوريّة هنا، أو هناك، أو حيث لا هناك، ولا جهات. أناديها، أصرخ باسمها لا تسمعني، أتوسّل إليها أن تعود إلى الدار، دارنا الواحدة الشاسعة. لا تسمعني، تمكث منحنية، ومنطوية على جراحاتها الباهظة وحزنها الدفين الضخم. وهذا الخريف المتبلّد يضرب درفات نوافذي، يضرب شوادر الشرفات المتكسّرة، وشوادر النازحين والمهجّرين، وتأوّه الفقراء والخائفين، ويخفي سماءنا بغيوم سميكة السواد. برق كثيف ينذر برعود الهاوية، يضرب طرقات القرى البعيدة والقريبة، البيوت المهدّمة، البيوت المنهوبة والمحروقة، الوجوه المرتعبة المستكينة، ويضرب ظهر أمّي، خاصرتها والجبين. وأمّي لا تأبه، وللدقّة أكثر لم تعد تأبه كفاقدة للذاكرة ومصابة بالزهايمر. يا إله الدمار والأحقاد ماذا فعلت بأمّي؟ وأمّي هناك بعيداً في اسوداد اللّا جهات.
أريد أمّي. أدوخ كطفلة أضاعت نومها، أحلامها، ألعابها، وتاهت، وحدها الكوابيس من وجدها. يتيمة أتقلّب على جمر الاحتمالات، وما من يقين. فأيّ احتمال صارت، تصير، أو ستصير عليه أمّي؟ 
فلأصِغْ سيناريو الاحتمال خاصّتي، في نوع من مراوغة الانتظار القاسي.  فمثلاً قد تكون أمّي زحفت بجراحها إلى الرقّة تتلقّى عنها القصف والجراح، تحضنها وتمسح على جبينها بأصابع الأمومة المشبوبة. أو أنّها عرّجت صوب إدلب تنقذها من اقتتال الأحقاد والصراع على المكاسب والغنائم. أمّي التي حسبتني أعرف أنفاسها، لا بدّ أنّها هُرعت إلى الجنوب، وبجلدها النازف تغطّي هلع القرى الحورانية، تهشّ عن وجوههنّ الخذلان والشعور الفتّاك بالوحدة، تلفّها به وتدرأ عنها جحافل السرطان الصهيونيّ القاتل. ولا شكّ أنّها ستمرّ إلى سويدائها المنهكة لفكّ الحصار عنها، وضخّ أرقها المكلوم بالأمان. 
بينما أسترسل الآن في تدبيج احتمالاتي هذه، تخترقني الأخبار النازفة، تخلع الروح والنوافذ، تحطّم الزجاج، تؤطّرها بالدماء، بالهلع، بالوجوم والعجز: خطف امرأة، صبيّة، طفلة، طفل، شابّ، كهل، ثمّ اغتصاب، قتل، نهب، اعتقال، تترامى كحجارة من سجّيل على يأسي الصلد. ومن شتات الجهات تقذفني بالهول: من الفرات وحلب، من دمشق وحمص، من حماة والساحل، يرافقها زعيق، يرافقها نعيق الطائفيّة العار. يا إله الخطف والسبي والموت، أين أمّي؟ أمّي المثخنة بالجراح، المكبّلة بالفقد الرهيب، والخسران المريع، والخذلان الخانق، ما تزال تتكوّم كبكماء وعمياء وصمّاء، أراها تتخبّط في احتمالات القبح، فتنخبط سيناريوهات احتمالاتي الساذجة العزلاء. ترف هو انتظار الجنون. 
تتجلجل في مسمعي كلمات تشي جيفارا: "قد يكون من السهل نقل الإنسان من وطنه، ولكن من الصعب نقل الوطن منه". أأصدّق القول والوطن غنيمة وخطيفة لحكامه الجدد، أو قطع حلوى للأغيار المحتلّين؟ هراء لعين ما يحدث، وشتات ذبيح، فأنا ملتحمة مع وطني، منذ انبثاق الضوء لعينيّ، حتّى انطفاء الكلام. يا أيّتها النوافذ، هبيني جنوناً صغيراً، كي أداوي جراح سوريّة/ أمّي، وأنفخ الحياة في روحها الذابلة، فتقف كالأشجار فاتحة اخضرار أغصانها لعودة جهاتها المغدورة، وتعانق بناتها جميعهنّ، بلا نقصان أو فقدان. أو هبيني يا نوافذ، جنوناً كبيراً كي أنعق مع الناعقين نشيد الطائفيّة، فأنعم في السراب.

المساهمون