استمع إلى الملخص
- الوثائق التي استخدمها جمال باشا لتبرير إعدام الشهداء تفتقر للأدلة القوية، حيث كانت تتعلق بجمعية النهضة اللبنانية وليس بالأحرار العرب، مما يبرز طموحاته السياسية المثيرة للجدل.
- تكرار الدعاية المغلوطة في المناهج الدراسية يمثل كارثة وطنية، حيث يتم تجريم العرب بناءً على معلومات غير دقيقة، مما يتطلب تصحيحاً عاجلاً لحماية الذاكرة الوطنية.
شهدت الساحة السورية أخيراً تطورين متصلين ومثيرين للجدل يعكسان توجهاً خطيراً نحو إعادة كتابة التاريخ الوطني، وكأنه محاولة لإرضاء أجندات إقليمية على حساب الذاكرة الوطنية.
الأول إلغاء عيد شهداء السادس من أيار من قائمة الأعياد الوطنية السورية. والثاني والأشد صدمة، وصف شهداء أيار في كتاب مدرسي حديث الصدور بأنهم "خونة وعملاء للإنجليز والفرنسيين"، بالتزامن مع إزالة لقب "السفاح" عن جمال باشا، القائد العثماني الذي أمر بإعدامهم، في خطوة تُفهم على أنها إعادة اعتبار لهذا الضابط المغامر.
هذا التغيير الجذري يثير تساؤلات حول المستفيد الحقيقي من قلب هذه الحقائق التاريخية. فبينما قد يظن البعض أن هذا التوجه يرمي إلى استرضاء الجانب التركي، فإنه في حقيقته يُعيد تدوير خطاب قديم حاولت جماعات مثل الإخوان المسلمين تبنيه منذ أربعينيات القرن الماضي، ويروّج لفكرة أن العرب الذين ثاروا على السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى كانوا مجرّد خونة وأن الثورة العربية الكبرى كانت "مؤامرة بريطانية" على الخلافة.
قيل إن جمال باشا عثر على وثائق تدين الشهداء بالتخابر مع الفرنسيين والتآمر على السلطنة. والحقيقة أن الوثائق في معظمها تخص جمعية النهضة اللبنانية التي كانت تخطّط مع القنصل الفرنسي لخطوات إعلان استقلال لبنان ضمن كيانية لبنانية، وهذه الجمعية كانت مدانة من الأحرار العرب الذين تم إعدامهم، هناك شخص واحد من ضمن الشهداء ينتمي لهذه الجمعية أو على الأقل تهمته الانتماء لهذه الجمعية، هو سعيد فاضل عقل. وهذا جرى إعدامه لعلاقته أيضاً بحزب اللامركزية. أما أعضاء هذه الجمعية اللبنانية فكانوا معروفين بالاسم ويعيشون في بيروت وجبل لبنان ولم يعتقل أي منهم.
أما الوثائق المتعلقة بأحرار العرب التي زعم جمال باشا في كتابه "إيضاحات" أنها تبرّر إعدامهم فهي وثائق عادية لا تستدعي حتى الاعتقال، فهي رسائل للقنصل الفرنسي مع وزارة الخارجية الفرنسية تتضمن لقاءات استطلاعية قام بها شفيق المؤيد العظم وشكري العسلي وعبد الوهاب الإنجليزي بصفتهم نوابا وسياسيين أرادوا الاستفسار من الفرنسيين حول حقيقة دعمهم لانفصال لبنان، وأنهم سيواصلون التباحث مع القنصل حول القضايا التي تهم مستقبل البلاد ضمن أفكار اللامركزية والحفاظ على وحدة السلطنة. وهذا منشور في كتاب جمال باشا.
القوميون الأتراك أنفسهم يلفظون جمال باشا ويشتمونه، ولا ينظرون إليه بوصفه رمزاً وطنياً، بل مغامراً ورّط الدولة التركية في حرب عبثية
كما ربط هؤلاء بثورة الشريف حسين وأنهم يستحقون الإعدام لأن الثورة العربية استدعت الإنكليز. وفي الحقيقة لا علاقة لهم بالثورة العربية التي انطلقت من الحجاز لا من قريب ولا من بعيد، ولا علاقة لهم بمباحثات الشريف حسين السرية مع الإنكليز، والذي حصل أن الشريف حسين اعتبر أن إعدامهم أحد أسباب الثورة. وقيل إنهم تآمروا على الخلافة. والحقيقة أن الذي تآمر على الخلافة وأنهاها عملياً هو جمال باشا ورفاقة منذ عام 1909.
من المستفيد من التشويه؟
يتجاهل من يتناسى هذه الحقائق أن الخلافة العثمانية انتهت على يد جماعة الاتحاد والترقي قبل الثورة العربية بثماني سنوات. لكن المستفيد الأول من هذا التشويه شخص جمال باشا نفسه، فجمال باشا يُلقّب بـ "السفاح" ليس فقط لوحشيته تجاه مثقفي العرب، بل لأنه تسبب في تسميم العلاقات العربية - التركية عقوداً. حتى القوميون الأتراك أنفسهم يلفظونه ويشتمونه، ولا ينظرون إليه بوصفه رمزاً وطنياً، بل مغامراً ورّط الدولة التركية في حرب لم تكن لها ناقة فيها ولا جمل.
إن النظرة المدققة في سيرة هذا الرجل الإشكالي تكشف عن تناقضات وشخصية مهتزة:
حين كان ضابطاً صغيراً في سالونيك، كان عضواً في محفل ماسوني، لكن المحفل أصدر قراراً بطرده بسبب مشكلة أخلاقية، إذ اكتشف رئيس المحفل أن جمال كان يقيم علاقة مع زوجته، وهي واقعة موثقة في صحف تلك الفترة. وعندما قَدِم إلى سورية حاكماً مطلق الصلاحية، لبّى دعوة في بيروت وتعرف هناك على الجاسوسة الصهيونية سارة آرنسون. وقد أقام معها علاقة استغلّتها لتسريب خطة الألمان لمعركة قناة السويس الأولى، مما أدّى إلى إحباط الخطة بالكامل، وفقاً لما ورد في كتاب "الاستخبارات والدولة العثمانية" لضابط الاستخبارات عزيز بك.
لاحقاً، وفي القدس، أعلن جمال باشا زواجه من إحدى سيدات مجتمع المستوطنين الصهاينة المدعوة ليئا تاننباوم، كما يذكر القنصل الإسباني في القدس أنه كان يلعب القمار مع جمال باشا.
هذه القصص بالإضافة إلى كونها تفاصيل شخصية، هي مؤشرات على ضعفٍ أمام الجنس الآخر، وتورّطٍ أمني استدعى من القيادة الألمانية المطالبة باستبعاده للاشتباه في اختراقه. وهو ما حصل إبان وضع الخطة الثانية لحرب الترعة.
الجانب الأكثر دلالة في هذه القضية طموحه السياسي، فعندما حاول عبد الرحمن الشهبندر استدرار عطفه ليعفو عن عبد الكريم الخليل ورفاقه المعتقلين قائلاً له: "يا حبذا لو أنك تقتدي بعدل صلاح الدين"، استشاط غضباً وقال: "ومن قال لكم إن قدوتنا صلاح الدين؟ نحن قدوتنا سليم الأول"، في إشارة إلى السلطان سليم "ياووز" الذي قتل إخوته لكي يحافظ على الحكم.
وفي الوقت الذي كان يُنفّذ فيه عمليات الإعدام، كان جمال باشا يخوض مفاوضات سرية مع الإنكليز عبر الأرمن. كان يطمح إلى حكم بلاد الشام حكماً ملكياً وراثياً لسلالته، وقد وافق مبدئياً على التنازل عن إسطنبول للروس أو الغرب مقابل هذا الحكم المؤبد.
دوافع الإعدام
في خضم هذه الأوهام السياسية، وجد جمال باشا أن العرب هم الخطر الأكبر على طموحه، خصوصاً من التيار الإسلامي السلفي الدمشقي بزعامة الشيخ عبد الحميد الزهراوي. لذا، أمر بإعدامهم. وترويج الرواية أنهم "عملاء" ليس سوى دعاية لـ "تطهير" تاريخ السفاح. سجلات المحاكمات، المنشورة باللغة العربية، لا تحتوي على أي وثائق تثبت صلتهم بالإنكليز أو الفرنسيين؛ بل على العكس، لو كانوا عملاء حقيقيين لما أقدم على إعدامهم، خوفاً من ردة الفعل البريطانية أو الفرنسية.
إن تكرار هذه الدعاية المغلوطة وتكريسها في المناهج الدراسية هو كارثة وطنية وغير علمية. إنها محاولة لتجريم العرب وتحميلهم مسؤولية "خيانة الخلافة" بناءً على منشورات شبكات التواصل الاجتماعي والدعاية الرخيصة التي حاولت طوال عقود تشويه هذه الصفحة المضيئة من تاريخ التحرر العربي.
الحقيقة التاريخية متاحة لمن يبحث عنها في وثائق تلك الفترة، في رسائل الشيخ عبد الحميد الزهراوي إلى رشيد رضا وغيرهم. أما تحويل الأكاذيب إلى مناهج دراسية، فهو تدليس خطير على الأجيال يتطلب وقفة وتصحيحاً عاجلاً.