استمع إلى الملخص
- يسعى الشرع للحصول على الشرعية الدولية ورفع العقوبات عن سوريا، رغم المخاطر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مثل بيع أصول الدولة الاستراتيجية.
- يرفض الشعب السوري التطبيع مع إسرائيل بسبب احتلال الجولان، ويعتبره تهديدًا للسيادة الوطنية، داعيًا إلى نموذج استثماري شفاف يوازن بين الدعم الخارجي وحماية الموارد الوطنية.
"يضيق صدري فيه، لأني كلما أنظر إلى زاويةٍ منه أستغرب كيف كان يخرج منه كلّ هذا الشر تجاه هذا المجتمع"، هذه كانت كلمات الرئيس السوري أحمد الشرع، التي عبر فيها عن ضيقه بالقصر الرئاسي في دمشق (قصر الشعب). ربما لم يضيق صدر الشرع من القصر الرئاسي إنما من سورية، لأن من يضيق صدره بمكان يخرج منه، بيد أنّ الشرع لم يتخط عتبت باب قصره إلّا باتجاه المطار ومنه إلى بلاد الله الواسعة، كي يلتقي بها بمن تيسر من نظرائه، محاولاً استرضاءهم من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يرفه عن نفسه بما حل بها من ضيقٍ.
"عندي شرفةٌ تطلّ على دمشق، وعندما أنظر كلّ يومٍ إلى دمشق منها أقول: كيف كان النظام السابق ينظر إلى دمشق ويهون عليه ما يجري فيها؟"، لا تطلّ شرفة الشرع سوى على دمشق، لذلك لم يستطع على ما يبدو أن يراقب ما جرى ويجري في الساحل السوري من مجازر مروعةٍ بحقّ المدنيين، ارتكبتها "مجموعاتٌ غير منضبطةٍ"، يمكن تسميتها بالأمن العام، والجيش السوري. الشرفة تطلّ على دمشق، إلّا أنّ مدى الرؤية محدودٌ أو اختياريٌ، لذلك لم يستطع الشرع رؤية مجزرة صحنايا وجرمانا والانتهاكات في السويداء، التي حشد وجيش واستثار عواطف الشعب ضدّ أهلها، تارةً باتهام أحد الدروز بشتم النبي محمد، وتارةً أخرى باتهام الدروز بالخيانة والعمالة للاحتلال الصهيوني، وهذا ما سهل ممارسات بعضهم، التي توجت بزيارة المئات من أبناء الطائفة الدرزية، الذين باتوا مؤخرًا تحت الاحتلال الصهيوني، للأراضي الفلسطينية المحتلة. كانت الزيارة الستارة التي اختبأ خلفها وفد النظام السوري الجديد، حاجبةً زيارته تل أبيب، والتي استمرت أيّامًا عدّة، بحسب صحيفة هآرتس. بقيّ خبر هآرتس، كما غيره من الأخبار المشابهة العديدة، تدور في حيز التكهنات والإشاعات إلى أن أكّده الشرع نفسه، في المؤتمر الصحافي الذي جمعه بنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس.
من ناحية أخرى؛ نجح الشرع في إدخال الفرحة إلى قلوب السوريين مرتين، الأولى بعد إزاحته نظام الأسد، الذي بقيَّ جاثمًا على صدور السوريين 54 عامًا، والثانية بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الرياض عن عزمه رفع العقوبات عن سورية، التي مثّلت عاملاً أساسيًا في تعقيد الأزمة السورية، إذ ساهمت في تدهور الوضع المعيشي والخدمي، وفاقمت من معاناة المدنيين، لذلك فإن الفرح السوري برفع العقوبات محقٌّ. رغم ذلك لا بدّ من تناول أهمّية هذه الخطوة، والثمن السياسي المحتمل، الذي قد تدفعه سورية، إضافةً إلى التداعيات المحتملة على الشعب.
تحاول التصريحات دائمًا إيضاح حسن النية، والسعي الدؤوب إلى السلام مع الاحتلال الصهيوني، من دون أن نعرف إلى الآن الامتيازات التي سيحصل عليها الاحتلال من السلام مع سلطة دمشق
لا يخفى على أحدٍّ أهمّية رفع العقوبات عن سورية، التي أدت إلى انهيار قيمة الليرة السورية، وتدهور الإنتاج المحلي، وتقييد حركة الاستيراد والتصدير، لذا قد يفتح رفعها المجال أمام تدفق الاستثمار، وتحسين البنية التحتية، وتوفير السلع الأساسية، ما سينعكس مباشرةً على حياة المواطن السوري. كما سيمكن مؤسسات الدولة من استعادة بعض وظائفها الحيوية، خاصّةً في مجالات الطاقة، والمعاملات البنكية، ما يعزز من الاستقرار الداخلي ويمنع الانهيار الكامل.
إلّا أنّ سعي الشرع للحصول على الشرعية والمقبولية الدولية، والغربية تحديدًا، إضافةً إلى رفع العقوبات عن سورية محفوفٌ بالمخاطر والخسائر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي قد تتكبدها سورية مقابل رفع العقوبات والمقبولية الغربية.
إن إعلان ترامب، الذي لم يدخل حيز التنفيذ بعد، لم يأتِ من فراغٍ، بل كان أحد المطالب الخليجية والتركية البسيطة، مقارنةً بما جمعه ترامب من أموالٍ في زيارته الخليجية الأخيرة (ما يقارب من الأربعة ترليونات دولار). ليس ذلك فحسب، إذ لم تكتفِ الولايات المتّحدة بالاستثمارات الخليجية الضخمة، بل سعت إلى تحقيق مكاسب من سورية بعد رفع العقوبات، كما بدا واضحًا من خلال دعوة الشرع، بعد اللقاء الذي جمعه مع ترامب في الرياض، الشركات الأميركية إلى الاستثمار في النفط والغاز السوري.
كذلك؛ وفي مقابل حصول الشرع على دعوةٍ لزيارة باريس ولقاء ماكرون، وقعت الحكومة السورية عقد تشغيل ميناء اللاذقية لمدّة ثلاثين عامًا مع شركةٍ فرنسية.
في أوضاع ما بعد الحروب، خصوصًا عندما تكون الدولة منهكةً اقتصاديًا، ومحرومةً من التمويل الدولي، قد تلجأ الحكومات إلى بيع أو تأجير أصول الدولة الاستراتيجية مثل الموانئ والمطارات، وحقول النفط والغاز، وشركات القطاع العام وسيلةً لجذب الاستثمارات، أو الحصول على سيولةٍ عاجلةٍ، وعلى الرغم من أنّ هذا المسار قد يبدو حلاً سريعًا، إلّا أنّه محفوفٌ بمخاطر كبيرة تمس السيادة الوطنية والاقتصاد على المدى الطويل.
قد يوفر بيع أو تأجير حقول النفط أو الفوسفات أو المرافئ أموالًا عاجلةً، لكنه يحرم الدولة من أرباحٍ ضخمةٍ محتملةٍ في المستقبل، كان من الممكن أنّ تساهم في إعادة الإعمار، وتحقيق التنمية المستدامة.
إنّ العقود الدائمة، أو طويلة الأمد (30–99 سنة)، وخصوصًا في حالة الدول الفاشلة، تمنح الشركات الأجنبية شروطًا تفضيلية مثل الإعفاءات الضريبية، أو نسب أرباح غير عادلةٍ، أو متوازنة، كما تتيح لها سلطة غير مباشرةٍ على حركة التجارة والسيادة البحرية، والسيادة على الثروات الوطنية، ما قد يُستخدم ورقة ضغطٍ في السياسات الإقليمية أو الدولية. ويسهم في إفقار الشعب مستقبلًا، كونها تحقق انتعاشة معيشية مؤقتة. والأمثلة التي سبقت سورية كثيرةٌ، يكفي إلقاء نظرة على العراق بعد عام 2003.
كانت الزيارة الستارة التي اختبأ خلفها وفد النظام السوري الجديد، حاجبةً زيارته تل أبيب، والتي استمرت أيّامًا عدّة
كما أنّ الأمر لا ينحصر في المخاطر الاقتصادية، وتبعاتها السيادية، بل يتعداه إلى مطالب سياسية مباشرة، منها تخلي سورية عن أيّة مطامح مستقبلية لتكون لاعبًا إقليميًا في المنطقة، والدخول باتّفاقيات أبراهام التطبيعية مع الاحتلال الصهيوني، الذي وسع من مساحة الأراضي التي يحتلها، ويستمر بعمليات القصف الجوي، الذي لا ينحصر في الجنوب السوري، بل يمتد إلى كامل الجغرافية السورية، من دون أيّ ردٍ من السلطة في دمشق، سوى تنديدٍ خجولٍ لا يوحي بأنّ الشهداء سوريين، والاعتداءات تتم على الأراضي السورية.
لا بل تحاول التصريحات دائمًا إيضاح حسن النية، والسعي الدؤوب إلى السلام مع الاحتلال الصهيوني، من دون أن نعرف إلى الآن الامتيازات التي سيحصل عليها الاحتلال من السلام مع سلطة دمشق، اقتصاديا وعلى مستوى مساحة الأراضي، والقرار السيادي.
مما سبق نلحظ أن سلطة دمشق تفهم قرار مجلس الأمن 242 (الأرض مقابل السلام) مقلوبًا (أي السلام مقابل الأرض)، وتنقلب على السياسة السورية الشعبية والرسمية، رفض التطبيع وتجريمه، المتبعة منذ الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، لذلك ارتبطت شرعية كلّ الأنظمة المتلاحقة على حكم سورية، ولو جزئيًا، بهذه السياسة. التراجع عن هذا الخط يعني تفكيك جزءٍ من الهوية السياسية السورية، التي تأسست عليها، وإحداث شرخٍ بين الدولة والمجتمع السوري، الذي لا يزال ينظر إلى إسرائيل على اعتبارها عدوًا محتلًا ليس لفلسطين فقط، إنّما للجولان كذلك، وهو جزءٌ لا يتجزأ من الأراضي السورية، وفقًا للقانون الدولي، ولقرارات الأمم المتّحدة، وفي مقدمتها القرار 497 لعام 1981، الذي يرفض ضم إسرائيل للجولان.
إنّ القبول بتطبيع العلاقات مع تل أبيب؛ في ظلّ استمرار الاحتلال، يعني عمليًا التخلي عن الحقوق القانونية والسياسية لسورية في هذه الأراضي، ويمنح إسرائيل ورقة نصرٍ سياسيٍ غير مستحقٍ. عمليًا؛ تمثّل أيّة خطوةٍ تطبيعيةٍ من دون استرجاع الجولان اعترافًا ضمنيًا بسيادة إسرائيل عليها، وهو ما يعتبر تنازلاً صريحًا عن جزءٍ من الأراضي السورية، وينسف مفهوم السيادة الوطنية من أساسه.
لا يقف التطبيع عند العلاقات الدبلوماسية فقط، بل يمتد إلى التعاون الاقتصادي، التكنولوجي، والأمني، ما يفتح الباب أمام اختراقٍ إسرائيليٍ للمؤسسات السيادية السورية، بدءًا من القطاع الاقتصادي، ووصولاً إلى المعلومات الاستخباراتية الحساسة، ما يهدد الأمن القومي، ويجعل من الدولة السورية رهينة النفوذ الصهيوني.
يحمل الشعب السوري موقفًا قويًا ضدّ التطبيع، لأسبابٍ عديدةٍ، منها فقدان عائلاتٍ سوريةً كثيرةً أبناءها بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وتهجير أبناء الجولان من مدنهم وقراهم. لذلك يبدو أن المضي في التطبيع من دون توافقٍ شعبيٍ وطنيٍ سيؤدي إلى أزمةٍ شرعيةٍ داخليةٍ، كما سيعزز مناخ الاحتقان والانقسام السياسي.
إلّا أنّ سعي الشرع للحصول على الشرعية والمقبولية الدولية، والغربية تحديدًا، إضافةً إلى رفع العقوبات عن سورية محفوفٌ بالمخاطر والخسائر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي؛ في ظلّ استمرار احتلال الجولان، لا يمثّل خيانةً لدماء الشهداء وتضحيات السوريين والفلسطينيين فقط، بل يُعدّ مساسًا جوهريًا بسيادة الدولة السورية، وتفريطًا خطيرًا بأمنها واستقلالها وهويتها الوطنية. لا يمكن لأيّ نظامٍ أنّ يزعم الحفاظ على السيادة، وهو يفتح الباب للعدو التاريخي، ليكون شريكًا استراتيجيًا تحت أيّ ذريعةٍ.
تبدو هذه التنازلات؛ الاقتصادية والسياسية، كلّها وكأنها في سبيل القبول بدولةٍ إسلاميةٍ في سورية فقط، تفرض الشرائع الإسلامية على الشعب السوري، ولا تسمح بالجهاد إلّا ضدّ أبناء الشعب السوري، من دون أنّ تشكل أيّ تهديدٍ للاحتلال الصهيوني.
في سياق بلد مثل سورية، مدمّرٍ من حربٍ طويلةٍ، ويواجه حصارًا اقتصاديًا، فإن التسرع في بيع، أو تأجير أصول الدولة يشكّل خطرًا حقيقيًا على السيادة والعدالة الاقتصادية، كما أنّ إضعاف سورية سياسيًا لن يؤدي مستقبلًا إلى دولةٍ ذات اقتصادٍ قويٍ. ولا يخفى على أحدٍّ أنّ الحكومة السورية الحالية مؤقتةٌ، وهذا يعني أنها لا تملك شرعية إبرام اتّفاقياتٍ يترتب عليها التزاماتٌ طويلة الأمد، كما لا يحقّ لها التفريط بالأرض، والتطبيع مع الاحتلال الصهيوني أو سواه.
لا يكمن الحل في "التفريط" بأملاك الشعب، بل في بناء نموذجٍ استثماريٍ شفافٍ، يوازن بين الحاجة إلى الدعم الخارجي، وبين حماية الموارد الوطنية للأجيال القادمة، وفي بناء اقتصادٍ منتجٍ، والابتعاد عن الاقتصاد الريعي، وهذا لا يمكن أن يتم إلّا بمشاركة مختلف فئات الشعب السوري بالقرار السياسي والاقتصادي.