المهاجرون الفرنسيون وإعادة تشكيل الواقع الأمني والعسكري في الشمال السوري

04 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 08:27 (توقيت القدس)
قوات عسكرية سورية في الشمال (19/7/2025 الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تحولت أدوار المهاجرين المجاهدين الأجانب في سوريا من قوة هجومية إلى عبء أمني واجتماعي، خاصة بعد تراجع النشاط العسكري، حيث انخرطوا في الحياة المدنية في المناطق المحررة شمال سوريا.

- تبلورت الخرائط الفعلية للمجموعات الأجنبية على أربعة محاور رئيسية، مع بروز تشكيلات مثل الكتيبة الألبانية وأنصار الإسلام، بينما حافظت كتيبة الإمام البخاري على استقلالية نسبية، وظهرت "ملحمة تكتيكال" كذراع تدريبية ناطقة بالروسية.

- شهدت الفترة الأخيرة تحولات في علاقة الأجانب بهيئة تحرير الشام، حيث أعادت الهيئة ضبط خطابها للتركيز على مكافحة "داعش"، وتعددت مآلات المجموعات الأجنبية بين الهجرة المعاكسة والتوطين الانتقائي.

على امتداد سنوات الثورة السورية والحرب التي تلتها، تَبدّلت وظيفة المهاجرين المجاهدين الأجانب من رأس حربةٍ هجومية إلى عبءٍ أمني - قانوني واجتماعي معقّد، لا سيما في المدّة التي خف فيها النشاط العسكري والأمني، واقتصرت العمليات على قصف عسكري من نظام الأسد والطيران الروسي على جيوب فصائل المعارضة المسلحة حينها في الشمال السوري؛ وبالتالي انخرط المقاتلون الأجانب في الحياة المدنية والاجتماعية للمناطق المحررة شمالاً.

فعليّاً، بدأت الموجة الأولى لدخول المقاتلين الأجانب (المهاجرين) سورية مع انفتاح الحدود في 2011–2013، حين تدفّق الآتون بدافع القتال الشرعي إلى بيئات المعارضة، وأسهموا تأسيساً وتوسّعاً في جبهة النصرة ثم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وتشكيلات مرتبطة بالقاعدة؛ وتبدّلت مسمّياتهم الجهادية تبعا للولاءات ولمصادر التمويل والانشقاقات والتغييرات الهرمية والأفقية للفصائل المقاتلة ضد نظام الأسد وضد روسيا وإيران؛ وحتى ضد فصائل مشابهة نتيجة حدوث انشقاقات وتباين في المصالح على الأرض.

على المستوى العملياتي، تبلورت الخرائط الفعلية للمجموعات الأجنبية على أربعة محاور تمتد من القلمون - البقاع إلى الساحل وجسر الشغور وإدلب وريف حلب

مسار زمني

في تلك المرحلة، وخصوصا بين 2012 و2015، راكم المهاجرون سمعةً قتالية صلبة داخل الحواضن الثورية، لا لشدّتهم في الخطوط الأمامية وحسب، بل لابتكارهم وحدات الانغماسيين والعمليات الاقتحامية التي ساعدت في فكّ حصارات وتثبيت مكاسب في الشمال، لا سيما خلال معارك حلب وريف حماه الشمالي. ومع تعمّق حربِ المدن وإطلاق نظام الأسد فكرة القصف بالبراميل المتفجرة، واستجلاب القوات الروسية ووحدات "فاغنر" الخاصة وشرعنة الفصائل الأجنبية الأخرى من قبيل الإيرانية والأفغانية والباكستانية، اتّسعت شرعيةُ حضورهم مؤقتاً. غير أنّ الصدمة العكسية بين 2015 و2018 ، بعد صعود "داعش" وانقلاب البيئة الدولية ضد أي امتداداتٍ عابرةٍ للحدود، دفعت نحو توطينٍ قسري للحركة الجهادية في بقعةٍ أضيق تمتد فقط شمال غرب سورية. 
تراجعت هنا الكتلة الأجنبية عدديا وتنظيميا إلى ما دون خمسة آلاف مقاتل مع عائلاتهم إجمالا، منهم من تزوج السوريات من أبناء المنطقة ومنهم من تزوج مهاجرات ومنهم من جاء مع أسرته الأصلية للعيش في مناطق الجهاد والنصرة، وكانوا موزّعين على ما لا يقل عن 15 جنسية (سعوديون، تونسيون، جزائريون، أردنيون، مغاربة، مصريون، سودانيون، كوسوفيون، ألبان، شيشان، بوسنيون، صرب، مقدونيون شماليون، تركستان شرقيون، فرنسيون، ومن الجبل الأسود). بعد 2018، احتكرت هيئة تحرير الشام سابقاً الإطار الأمني والعسكري في إدلب، فأُعيد تشكيل ملف الأجانب داخل نظام ضبط يُميّز بين كتلةٍ متعاونة تُدمَج وظيفيا ضمن غرفة "الفتح المبين"، وأخرى تُعامَل كخطرٍ كامن يُطوَّق بالاعتقالات والتفكيك.

المستوى العملياتي والهرمي

على المستوى العملياتي، تبلورت الخرائط الفعلية للمجموعات الأجنبية على أربعة محاور تمتد من القلمون - البقاع إلى الساحل وجسر الشغور وإدلب وريف حلب، مع بقاء الحزب الإسلامي التركستاني العمود الأكثر ثباتا حيث تموضع في المناطق الوعرة بين جسر الشغور وجبلي الأكراد والتركمان منذ صيف 2013، وتولّى لاحقًا أدوارا نوعية في السيطرة على مطار أبو الظهور والمشاركة في معارك سهل الغاب، ثم الدفاع المتراكم في تلال كبانة. قيادته تعاقبت بين أبو عمر وأبو رضا وأبو إبراهيم منصور التركستاني، وتراوح حضوره (بما في ذلك العائلات) بين 1500 و3000. إلى جانبه، برزت الكتيبة الألبانية، Xhemati Alban وتضم نحو 100–150 مقاتلاً من ألبان كوسوفو ومقدونيا الشمالية ووادي بريشيفا والبوسنة والجبل الأسود، بقيادة يساري جاشاري المعروف حركيا باسم أبو قتادة الألباني، والذي مُنح أدوارا استشارية - تكتيكية مبكرا داخل جبهة النصرة، وكثّف من حضور الكتيبة في التدريب والقنص والتحصين في الساحل وحصار الفوعة - كفريا وفك حصار أحياء من حلب.
أمّا أنصار الإسلام، وهي نواة كردية من سورية والعراق وإيران، فحافظت على ولاء مُعلن لخط القاعدة من دون مبايعة صريحة، وتمركزت في تلال كبانة مع مشاركةٍ أسبق في ريف حماة الشمالي وفك حصار حلب، قبل أن تتقلّص من ذروة 250–350 إلى أقل من مائة عنصر بفعل عدة عوامل، أهمها شحّ التمويل، تبدل الولاءات وانتقال مقاتلين إلى فصائل أكبر ولديها أصول مالية وعسكرية أكبر، وقلة المعارك والتضييق الأمني من قوات نظام الأسد والقوات الروسية، لا سيّما ضد المجموعات الصغيرة.
في الطيف القوقازي، تشكّلت ألوية متعدّدة مثل جيش المهاجرين والأنصار، أجناد القوقاز، جند الشام؛ ثم تعرّضت لتفككٍ تدريجي؛ غادر جزء من أجناد القوقاز إلى أوكرانيا في 2022–2023 بقيادة عبد الحكيم الشيشاني، فيما أُجبر مسلم الشيشاني و70 من مجموعته على الاندماج تحت نقاط الفتح المبين ومغادرة كبانة وجسر الشغور. 
من محور آسيا الوسطى، حافظت كتيبة الإمام البخاري، التي تضم حوالي 300 مقاتل، على استقلالية نسبية في ريفي حلب وإدلب، رغم تغيّر قادتها باغتيالات واعتقالات أمنية متقطعة وانشقاقات؛ وظهرت "ملحمة تكتيكال" بوصفها ذراعا تدريبية ناطقة بالروسية تأسست 2016، قدّمت خدمات تكتيكية وحولت مجموعات من هيئة تحرير الشام حينها إلى قوةِ اقتحامٍ منضبطة، وتناوب على قيادتها أبو رفيق الأوزبكي ثم أبو سليمان البيلاروسي قبل أن تستقرّ على قيادة علي الشيشاني بعدد لا يتجاوز 200 مقاتل. شاركت مجموعة "ملحمة تكتيكال" في عمليات التدريب، وقدّمت مع الهيئة تدريبات متقدمة على استخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة من نمط (بي كي سي) و (آر بي جي)، والقتال القريب، والمداهمات، والانسحاب والهجوم، والإسعافات الميدانية، والقتال الليلي، والمسح الطبوغرافي واستخدام وسائط "جي بي إس" لتوجيه المدفعية والصواريخ. ومن أبرز نتائج تلك الجهود، نشوء تشكيلات نخبوية مثل العصائب الحمراء التي تأسّست عام 2018، وخضعت لتدريبات قاسية على يد مدربي "ملحمة تكتيكال"، شملت العمل خلف خطوط العدو وعمليات التسلل التكتيكي، ما عكس توجه الهيئة آنذاك لبناء قوة عسكرية وأمنية احترافية تمكّنها من السيطرة الميدانية والحدودية في شمال غربي سورية.
وعلى الضفة الإيرانية - السنية، نشأت حركة مهاجري أهل السنة في إيران بزعامة ملا عبد الرحمن فتحي، في وضعٍ هجينيٍ بين الانضواء الرمزي تحت "الهيئة"، والحفاظ على علمها ومخيماتها الدعوية وتنظيمها الخاص، وقدّمت قادة بارزين مثل أبو بكر التوحيدي، وملاوي عبد الكريم البلوشي، في معارك إدلب وحماة وحلب. أما الأكثر شراسة فكانت مجموعة "حُرّاس الدين"، وهو تنظيم جهادي سلفي تأسس عام 2018 في شمال غرب سورية بعد انشقاق قيادات من هيئة تحرير الشام ورفضت فك الارتباط بتنظيم القاعدة، وكان أبرز متزعميه أبو همام الشامي ويضم عدة قادة سابقين في جبهة النصرة.
كان تنظيم "حرّاس الدين" آخر مظلةٍ قاعدية صلبة قبل أن تفكّكها حملاتُ أمن الهيئة 2020–2022 عبر اعتقالات طاولت قادة شرعيين وميدانيين (أردنيين ومغاربة وتونسيين ومصريين)، الأمر الذي حوّلها إلى خلايا محلية مُحاصرة ماليا وأمنيا. يتبنّى التنظيم فكر القاعدة ويعارض أي تسويات سياسية أو تعاون مع تركيا، ويعتبر هيئة تحرير الشام حينها منحرفة عن المنهج الجهادي. وينتشر في مناطق محدودة من إدلب وريف اللاذقية وسهل الغاب، ويضم ما بين 1200 و2000 مقاتل بينهم أجانب. ورغم قيامه ببعض العمليات ضد النظام السوري والقوات الروسية، تعرّض لضربات أميركية مكثفة أضعفته وقتلت معظم قياداته. في يناير/ كانون الثاني 2025، أعلن تنظيم حرّاس الدين، إحدى آخر الأذرع المتبقّية لتنظيم القاعدة في سورية، عن حلّ نفسه وإنهاء نشاطه المعلن. غير أن التطورات اللاحقة أظهرت أن الإعلان لم يكن سوى خطوة شكلية، إذ كشفت الغارات الأميركية في فبراير/ شباط 2025 عن استمرار نشاط بعض قياداته وشبكاته المالية في إدلب، تعمل في الخفاء وبأطر محدودة.
ورغم تراجع نفوذه الميداني، ما زالت الولايات المتحدة تعتبر فلول التنظيم أهدافاً ذات أولوية، فنفّذت ضربات دقيقة استهدفت مسؤولين عن التمويل والاتصال. في المقابل، تنظر دمشق إلى التنظيم بوصفه خطراً رمزياً أكثر من كونه عسكرياً، إذ يشكل مجرد وجود كيان مرتبط مباشرة بـ"القاعدة" تحدّياً لخطابها الرسمي القائل إنها استعادت السيطرة الأمنية الكاملة على البلاد.

أعادت هيئة تحرير الشام ضبط خطابها وأجهزتها؛ من جهادٍ أممي إلى جهاز أمنٍ عام محلي يلتزم وقف إطلاق النار 2020 ويركّز على مكافحة "داعش"، وتفكيك بقايا "القاعدة"

تحوّلات بنيوية

أعاد هذا التحوّل البنيوي تعريف علاقة الأجانب بالقيادة السورية الجديدة وبهيئة تحرير الشام معا. فبعد سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وفق المشهد السياسي المستجدّ، تَشكّلت غرفة إدارة عمليات عسكرية بقيادة الهيئة ضمّت مكونات أجنبية أساسية، مثل الحزب التركستاني وكتائب شيشانية وأجناد الشام، وبات خطاب الرئاسة؛ وفق ما نُقل عن أحمد الشرع في منتصف يناير/ كانون الثاني، يُقارب الملفّ بمزيج من الاعتراف بالمساهمة والترتيب المؤسّسي، حتى طُرحت علنا مداخل تمنح مكافأةً أو جنسيةً للبعض، وتثبيت رتب لقيادات أجنبية داخل الجيش الجديد حيث مُنحت رتب عسكرية لقياديين كالأردني عبد الرحمن حسين الخطيب بدرجة عميد، وعلاء محمد عبد الباقي (مصري)، وعبد العزيز داود خدابرد (إيغوري)، ومولان ترسون عبد الصمد (طاجيكي)، وعمر محمد جفتشي مختار (تركي)، وعبد البشاري خطاب (ألباني)، وزنور البصر عبد الحميد عبد الله الداغستاني قائد جيش المهاجرين والأنصار. لكن هذه النافذة السياسية انغلقت تدريجيا تحت ضغط مجموعة شروط واضحة، مثل عدم تمكين الأجانب من مفاصل الأمن والجيش والحكومة، ومنع تحويل الأراضي السورية منصّةً لأي عملياتٍ أو إعدادٍ خارج الحدود، وعدم مشاركتهم في عمليات مناوئة لحلفاء الإدارة السورية الجديدة.
بالتوازي، أعادت الهيئة ضبط خطابها وأجهزتها؛ من جهادٍ أممي إلى جهاز أمنٍ عام محلي يلتزم وقف إطلاق النار 2020  ويركّز على مكافحة "داعش"، وتفكيك بقايا "القاعدة"، ومنع الكيانات المستقلة خلف ستار الهجرة أو التديّن من بناء سلطةٍ اجتماعية موازية.
ضمن هذا الإطار، تعدّدت مآلات المجموعات الأجنبية بين أربعة مسارات متزامنة أكثر من أنها بدائل متنافية. أوّلها الهجرة المعاكسة إلى ميادين نزاع بديلة مثل أفغانستان، مالي/ الساحل، اليمن، أوكرانيا، وقد شوهدت بالفعل موجات صغيرة قوقازية-شيشانية وألبانية تنتقل شمالا-غربا؛ ثانيها التوطين الانتقائي داخل الشمال الغربي عبر وثائقٍ محلية وترتيبات زواج وقرابة مع عائلاتٍ سورية؛ وهذا سيناريو مكلف اجتماعيا وسياسيا ويصطدم برفضٍ شعبي متوقّع وبحساباتٍ لاحقة حول معاملة المليشيات الإيرانية على الضفة الأخرى، ثالثها إعادة التكتل إذا ضعفت قبضةُ الهيئة أو تبدّل ميزان القوى، وهو احتمالٌ تقيّده اليوم البنية الأمنية المحكمة؛ ورابعها التسليم والمحاكمة/ الإعادة عبر قنواتٍ ثنائية، كما في تسليم أبو حنيف الأذري واثني عشر من مجموعته إلى أذربيجان في يونيو/ حزيران 2023، أو عبر تركيا نحو قضاء ومحاكم الدول الأم، مع حزمة إجراءات إعادة تأهيلٍ متفاوتة. بهذه الخلفية، بات الملفّ يُدار على تقاطع خمسة أنظمة قانونية: قضاءٌ وطني للدول الأم (الإرهاب والتمويل والانضمام)، وقانونٌ تركي للعبور غير النظامي والترحيل، ومحاكم شرعية محلية في إدلب بلا اعتراف دولي، ولكن بسلطة فعلية، وقرارات أممية (2100 - 2396 وما تلاها) حول المقاتلين الأجانب والوقاية، واتفاقية حقوق الطفل التي تفرض حماية وطنيّة وقضائية للأحداث الذين خلفتهم زيجات المقاتلين من نساء على الأراضي السورية.

أزمة المقاتلين الفرنسيين

أمّا المقاتلون الفرنسيون فمثّلوا حالةً خاصة تتجاوز ثنائيةَ مقاتل/ لاجئ إلى مجتمعٍ مُراقَب. منذ 2013، ارتبطت القصة باسم عمر ديابيه أو "عمر أومسن" وزمرةٍ صغيرة من مراهقين وراشدين قدموا من نيس ومدنٍ أخرى؛ تَحوّلت الفرقة مع الزمن إلى مجتمعٍ مغلق على تلال حارم: فيه عشرات الرجال والنساء وحوالي مائة طفل، ويحوي مدرسة ومسجداً وملاعب وكاميرات وأسوار عالية، ورواية دعوية تُعيد تسويق الهجرة بوصفها خلاصاً أخلاقيا من ظلم فرنسا الصليبية. لم تكن فرقة الغرباء ثابتة بنيويا؛ إذ إن ولاءها الخطابي بقي للقاعدة بينما تسرّبت عناصر نحو "داعش" في 2014، وظهر اسمها علنا بعد 2018 مع غرف "وحَرِّض المؤمنين" ثم "فاثبتوا"، قبل أن تبدأ موجة الاعتقالات والتفكيك 2018–2020، أعقبها إفراج مشروط في 2022 يمنع تشكيل كيانٍ مستقلّ ويُلزم التنسيق مع الفتح المبين. 
في الواقع، لم تتوقّف البنية الدعوية - الوصائية داخل المعسكر، حيث سيطرة على النساء والأطفال والزواج والتنقل، ودعاية رقمية منخفضة الذبذبة تُغذّي أسطورة العيش المتديّن داخل إدلب، مع قدرة دفاعية محلية محدودة تمنع اقتحاماً رخيص الكلفة من دون تنسيق أمني - تركي. تعاملت الهيئة مع الملف باعتباره أمناً داخليّاً ونفذت مداهماتٍ دورية، وخطوطاً حمراء على الدعاية والهجرة والوصاية، وتفكيكاً بطيئاً تراكمت مبرّراته بحوادث صغيرة (محاولات فرارٍ عبر الجدار التركي، نزاعات حضانة، مواد مصوّرة تُهاجم محلية الهيئة).
في المقابل، اعتمدت باريس سياسة ثلاثية شملت ملاحقات جنائية استناداً إلى اختصاصٍ خارج الإقليم، إعادة أطفال وأمهات تحت مبدأ المصلحة الفضلى للطفل، وبرامج وقاية ومراقبة داخلية مع تنسيقٍ حدودي مع أنقرة. هكذا انتهى الدور العسكري لفرقة الغرباء فعليّاً، لكن وظيفتها الاجتماعية - الرمزية القائمة على سردية بقيت تُعيد إنتاج التعاطف مع مهاجرين جاؤوا لنصرة النساء المسلمات وتحريرهن من ظلم نظام الأسد وبطشه، وهيكل صائب يضبط آلاف القرارات اليومية لعائلاتٍ انقطعت عن فرنسا ولم تندمج في إدلب، وملفّ قانوني مفتوح على تسويات فردية تُدار بين الأمن العام والحدود التركية والقضاء الفرنسي.

مثّل تضامن الجماعات الإيغورية والشيشانية والأوزبكية مع الفرنسيين تطوّراً ميدانياً بالغ الأهمية، إذ أعاد إحياء شبكة الأخوّة المهاجرة التي كانت في طريقها إلى الاضمحلال

تطوّرات مفاجئة

بقيت حالة المهاجرين الجهاديين من أصول فرنسية خاملة، وهناك ادّعاءات أنهم لم ينخرطوا في أية معارك في المدّة الأخيرة، وأصبحوا عبئاً حقيقيّاً على الإدارة الجديدة في دمشق، مع إصرارهم على رفض الاندماج ضمن مبدأ الإدارة الجديدة وانشغلوا بأعمال خارجة عن القانون عموماً لمصالح شخصية لقياداتهم. ومع إعلان إدارة الأمن العام عن تنفيذ حملة أمنية في منطقة حارم تستهدف هذه الكيانات وتضبط وجودها، بات واضحاً أن عملية اقتحام مخيم الفرنسيين في الفردان لم تكن مجرّد استجابة لحادثة جنائية تتعلق بخطف طفلة، بل تمثّل تحوّلاً جوهرياً في نهج السلطة السورية الجديدة تجاه ملفّ المقاتلين الأجانب، فالحملة الأمنية حملت في طياتها أكثر من بُعد: فهي من جهة محاولة لإثبات قدرة الدولة الناشئة على فرض سيادتها على جميع الكيانات المسلحة، بما فيها تلك التي كانت شريكة في إسقاط النظام السابق. ومن جهة ثانية، هي ملاحظة إلى المجتمع الدولي، وخصوصاً باريس وأنقرة، مفادُها بأن القيادة الحالية تتبنّى سياسة تصفير الفوضى في إدلب، عبر إنهاء الكيانات المستقلة التي تمارس سلطة موازية داخل المخيمات. ما جعل العملية أكثر رمزية أنها استهدفت شخصية مثل عمر أومسين، الذي يمثل بالنسبة لدوائر غربية صورة المجاهد الأوروبي الأخير في سورية، وبالنسبة للسلطة الجديدة بقايا ماضٍ تجب تسويته. ومع أن الرواية الرسمية ركّزت على دوافع إنسانية تتعلق بسلامة المدنيين، إلا أن توقيت العملية الذي جاء بعد أسابيع من لقاءات سياسية بين الرئيس أحمد الشرع ومسؤولين غربيين، يشير إلى تلاقي ضرورات الداخل مع شروط الخارج؛ أي القضاء على الجيوب الجهادية غير المنضبطة بوصفها مدخلاً للاعتراف الدولي.
في المقابل، مثّل تضامن الجماعات الإيغورية والشيشانية والأوزبكية مع الفرنسيين تطوّراً ميدانياً بالغ الأهمية، إذ أعاد إحياء شبكة الأخوّة المهاجرة التي كانت في طريقها إلى الاضمحلال خلال الأعوام الأخيرة، ولاسيما بعد أنباء عن بدء تنفيذ اعتقالات طاولت شخصياتٍ مثل أبو دجانة وغيره، فقد أصدر الحزب الإسلامي التركستاني بياناً شديد اللهجة عدّ فيه الاقتحام اعتداءً على جميع المهاجرين، بينما نقلت قنوات قوقازية تسجيلاتٍ لمقاتلين شيشان أعلنوا أنهم لن يسمحوا بتكرار سيناريو الباغوز في إدلب. كما تداولت منصّات أوزبكية محلية رسالة صوتية لأحد قادتها يحذّر فيها من أن الصمت اليوم يعني المداهمة غداً. ويعكس هذا التفاعل العابر للجغرافية إدراكاً عميقاً لدى هذه الجماعات بأن تصفية الغرباء قد تشكّل سابقة تُستنسخ ضدهم لاحقا. ومع أن معظم هذه الفصائل لم تُقدم على تدخّل مباشر، فإن مجرّد إعلانها الاستعداد للتحشيد قرب حارم كان كافيا لإحداث توازن ردعٍ غير معلن أجبر السلطات على قبول هدنة وممرّات إنسانية. ومن منظور تحليلي، يعكس هذا الاصطفاف المبدئي عودة التنسيق بين أطياف الجهاد العالمي في لحظة ما بعد الثورة، ويطرح على السلطة السورية الجديدة معضلة مضاعفة حول كيفية تفكيك البنية الجهادية من دون إشعال صدامٍ أوسع يعيد إدلب إلى مربع الفوضى.
ولا تختبر معركة الفردان بهذا المعنى فقط شرعية الدولة الوليدة، بل أيضاً حدود قدرتها على إدارة ملفّ المهاجرين بين إكراهات الأمن ومتطلبات السياسة الدولية، في منطقةٍ ما زالت تعيش على خطوط تماسٍّ دقيقة بين الولاء القديم والنظام الجديد.
عموماً، ترسم التجربة السورية مسارا مُركّباً لتحوّل المهاجرين من قوّة صادمة إلى كتلةِ إدارةٍ أمنية- قانونية - اجتماعية؛ حيث خفت صوت التشكيلات العابرة للحدود من طموح الجهاد الأممي إلى مشهدٍ شديد المحلية تحكمه هيئة تحرير الشام وقواعد وقف النار ومشروطيات الدعم الخارجي؛ وتحوّل النقاش من مسألة أماكن وجود هؤلاء المقاتلين إلى مسألة كيفية إدارة هذا الوجود وترتيبه، وكيفية حل قضاياهم العائلية والجنائية والوثائقية. وبين انتقالاتٍ محدودة إلى جبهاتٍ أخرى، وتوطينٍ انتقائي، وتسليمٍ ومحاكمات، وبقايا خلايا مكبوحة؛ سيظلّ هذا الملف معلّقاً على توازنٍ دقيق بين كفاءة الضبط المحلي، وحوافز الخروج، وحسابات الدول الأم، وحدود القانون الدولي في التعامل مع مجتمعات صغيرة بقيت ناجيةً من الحرب أكثر منها فاعلة فيها.

المساهمون