الصين... بين إعلاني بكين ووقف الحرب

01 ابريل 2025   |  آخر تحديث: 18:09 (توقيت القدس)
السفير الصيني لدى الأمم المتحدة تشانغ جون 22 /3 /2024 (إدواردو مونوز ألفاريز/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعتمد الدبلوماسية الصينية على الشعارات الكبيرة بدلاً من الأفعال الملموسة، مما يبرز تركيزها على المظاهر الخارجية في السياسة الخارجية، حيث تقدم نفسها كلاعب عالمي إيجابي دون حلول حقيقية للصراعات الإقليمية مثل القضية الفلسطينية.

- خلال الصراعات الإقليمية، مثل الحرب في غزة، تفضل الصين دعم الجهود الدولية والتركيز على الجوانب الإنسانية، مع عدم تفعيل مبادراتها مثل "المنظمة الدولية للوساطة"، مما يبرز محدودية تأثيرها أمام الهيمنة الأمريكية.

- تتجنب الصين اتخاذ مواقف قد تضر بعلاقاتها مع إسرائيل، ملتزمة بنهج "الإجماع الدولي"، مما يضعف تأثيرها في السياسة الإقليمية ويجعل دورها في الشرق الأوسط رمزيًا أكثر من كونه فعّالًا.

"الصينيون يحبون الشعارات"؛ هكذا يصف الباحث إسحاق شيشور النموذج الصيني في السياسة الخارجية، وتلخص ملاحظته النهج الدبلوماسي الصيني، الذي يعتمد على التصريحات الكبرى المصحوبة بأدنى قدر من العمل الملموس، ومع ذلك، فإنّ لهذه الشعارات تأثيرًا نسبيًا على تشكيل التصورات. في القرن السابع عشر؛ قدم الفيلسوف الألماني يوهان جوتفريد هردر نقدًا موازيًا، واصفًا الصينيين بأنّهم يركزون كثيرًا على "المظاهر والعروض الملونة، والأشكال الخارجية، بدلاً من الجوهر أو الجودة الأعمق". بينما كان هيردر يشير إلى الصين ما قبل الحديثة، يرى شيشور أنّ هذا المنظور لا يزال وثيق الصلة بالصين الحديثة، بما في ذلك جمهورية الصين الشعبية.

من الأمثلة الواضحة على ذلك الاستخدام المتكرر للشعارات بدلاً من اللغة المباشرة، عند الكشف عن سياساتٍ محليةٍ وأجنبيةٍ جديدةٍ. وتنطبق رؤى شيشور خصوصًا على دبلوماسية الصين في الصراعات الإقليمية، من خلال صياغة شعاراتٍ، مثل "دبلوماسية القوى الكبرى"، و"دبلوماسية شي" الأكثر جذبًا للانتباه، تسعى الصين من خلالها إلى تقديم نفسها لاعبًا فريدًا وإيجابيًا، وقد طرحت الصين هذه الشعارات في سياق القضية الفلسطينية تحديدًا، إذ تعرض هذه الشعارات النوايا السلمية للصين، ولكنها مهيكلة أداةً مضادةً للهيمنة الأميركية أكثر من كونها حلاً للصراع.

تجعل مجموعةٌ من العوامل الدور الصيني محدودًا وشكليًا أكثر منه جوهريًا، بدايةً، من عدم رغبة الصين في الانخراط في صراعاتٍ يمكن اعتبارها هامشيةً

غالباً ما يهدف خطاب الصين إلى تعزيز صورتها لاعبًا عالميًا بناءً مع إخفاء الطبيعة السطحية "نسبيًا" لمشاركتها. في عام 2013، ألقى وزير الخارجية الصيني وانغ يي خطابًا في منتدى السلام العالمي الثاني بعنوان "استكشاف مسار دبلوماسية الدول الكبرى ذات الخصائص الصينية"، ولكنه لم يطرح التطبيق العملي لهذه الخصائص.

في بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، نشرت الكاتبة مقالةً على موقع "العربي الجديد"، في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عنوانه: "طوفان الأقصى: أين الصين؟،" قالت فيها "لا يرقى الدور الذي تقوم به الصين إلى مستوى دولةٍ عظمى، تسعى إلى أداء أدوارٍ أكبر في الشرق الأوسط، وليس هذا الدور المتوقّع منها من الفلسطينيين. لقد وضعت عملية طوفان الأقصى الصين أمام اختبارٍ حقيقيٍ، مثلها كمثل باقي القوى العظمى، أين تصطفّ؟" وفي التاسع والعشرين من الشهر ذاته نشرت مقالةً أخرى عنوانها: "طوفان الأقصى: إحياء أيزنهاور وفورد وإعدام ماو تسي تونغ"، وذكرت فيها أنّ موقف الصين من الحرب لن يخرج عن إطار "إدانة الطرفين، والدعوة المتكررة لدعم حلّ الدولتين، والتركيز على الجانب الإنساني، والتصويت لصالح قرارات وقف إطلاق النار، والهدنة في الأمم المتّحدة، ومجلس الأمن". لكن من دون أيّ فعلٍ حقيقيٍ على الأرض يوقف الحرب مثلًا، هذا ما حدث فعليًا، وأثبتته الشهور الطويلة الدموية للإبادة هنا يبرز سؤالٌ: هل هذه استراتيجيةٌ صينيةٌ محسوبةٌ، أم عجزٌ دبلوماسيٌ أظهر محدودية الدور الصيني سياسيًا في الإقليم؟

اندلعت الحرب بعد ثمانية أشهرٍ على إعلان الصين عن وثيقة الأمن العالمي، التي أشارت فيها إلى استعدادها للمشاركة في حلّ القضية الفلسطينية، وتحقيق السلام في الشرق الأوسط، وفي الشهر ذاته؛ أنشأت الصين "المكتب التحضيري للمنظّمة الدولية للوساطة". ترويجًا للمنظّمة، حينها قال وزير الخارجية الصيني تشين جانغ: "المنظّمة الدولية للوساطة ستكون أوّل منظّمةٍ قانونيةٍ حكوميةٍ دوليةٍ في العالم مخصصةً لحلّ النزاعات الدولية من خلال الوساطة. وسوف تتجاوز حدود التقاضي والتحكيم حيث يفوز أحد الطرفين ويخسر الآخر... ونحن على ثقةٍ من أنّ المنظّمة الدولية للوساطة ستستفيد كلّيًا من نقاط قوتها الفريدة، المتمثّلة في كونها مرنةً وفعالةً من حيث التكلفة، ومريحةً وتقدم خيارًا جديدًا لجميع البلدان لحلّ النزاعات الدولية سلميًا".

لم تُفعّل هذه المنظّمة خلال حرب الإبادة، ولم يُطرح أيّ دورٍ مباشرٍ أو أحاديٍ لها في حلّ، أو التوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مقارنةً مع واقع دور الصين في الحرب، فإنّ السياسة الخارجية الصينية لا تعدو كونها "ترويجًا" خاليًا من الأفعال الحقيقية تجاه الإقليم. وقد أثبتت الحرب أنّ الصين لا تزال بعيدةً عن تحقيق اختراقٍ حقيقيٍ للهيمنة الأميركية في إقليم الشرق الأوسط من جهةٍ، ودبلوماسيتها محدوديةٌ - إن وُجدت - من جهةٍ أخرى.

غالبًا ما يهدف خطاب الصين إلى تعزيز صورتها لاعبًا عالميًا بناءً مع إخفاء الطبيعة السطحية "نسبيًا" لمشاركتها

بعد الإعلان عن التوصل إلى وقف الحرب، قالت الصين: "منذ اندلاع الجولة الحالية من الصراع في قطاع غزّة، دعت الصين إلى وقف إطلاق النار المبكر، وعملت بنشاطٍ من أجل خفض التصعيد، وحماية المدنيين، وتقديم المساعدات الإنسانية. تدعم الصين تنفيذ اتّفاق وقف إطلاق النار، وستواصل تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، وبذل جهودٍ قويّةٍ لاستئناف عملية إعادة الإعمار بعد الحرب. كما نأمل بصدقٍ أن تستغل الأطراف المعنية وقف إطلاق النار في غزّة فرصةً لخفض التوترات في المنطقة خفضًا كبيرًا، وستعمل الصين مع المجتمع الدولي وتبذل جهودًا متواصلةً من أجل السلام والاستقرار في الشرق الأوسط".

يؤكد هذا الإعلان على أن السياسة الخارجية الصينية تجاه الصراع لها ثلاث ميزات: الابتعاد عن الانخراط المباشر في الصراع، تحميل مسؤولية حلّ الصراع لأطرافٍ أخرى، أهمّها مجلس الأمن، والترحيب بالجهود الدولية. وبالتالي، تبقى كلّ الشعارات السابقة، خصوصًا "دبلوماسية شي"، فارغةً من المضمون.

تجعل مجموعةٌ من العوامل الدور الصيني محدودًا وشكليًا أكثر منه جوهريًا، بدايةً، من عدم رغبة الصين في الانخراط في صراعاتٍ يمكن اعتبارها هامشيةً، بخلاف القضايا الحيوية بالنسبة لها، أهمّها تايوان وبحر الصين الجنوبي. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ ملف القضية الفلسطينية مهيمنٌ عليه كليًا من الولايات المتّحدة، وهو ما يفسر دفع الصين نحو البحث عن أبوابٍ أخرى للبقاء "حيةً" خلال الحرب، بعيدًا عن التواصل المباشر مع إسرائيل، التي تمثّلت في دعوة الفصائل الفلسطينية إلى العاصمة الصينية، التي نتج عنها إعلان بكين، ومع ذلك، بقيت الدبلوماسية الصينية في إطار الشعارات فقط، "إعلان بكين" الذي لم ينفذ، فبعد الإعلان عنه اختفى تمامًا من الإعلام العربي والصيني، وبالتالي، فإنّ أيّ دورٍ صينيٍ لا يعدو كونه لحظيًا، يرتكز على المظاهر والشعارات، يقتنص فرصةً معينةً للظهور، لإثبات وجوده، وعلى اعتباره قادرًا في الوقت نفسه على تعزيز صورةٍ قويةٍ وإيجابيةٍ لها.

أما العامل الأخير، فهو عدم رغبة الصين في استفزاز إسرائيل، بطريقةٍ تؤدي إلى التأثير على العلاقة بين الطرفين كثيرًا، فقد التزمت الصين في كلّ خطاباتها نهج "الإجماع الدولي"، ويمكن اعتبار سقف موقفها أدنى بكثيرٍ من مواقف دولٍ لا توازيها من حيث القوّة والمكانة الدولية والتأثير. لم تلجأ الصين، مثلًا، إلى مواجهة إسرائيل عبر الانضمام إلى الدول التي تحاكم إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وفي مقدمتها جنوب أفريقيا، ولم تقطع علاقاتها مع إسرائيل، أو تطرد سفيرها كما فعلت بعض الدول مثل بوليفيا، وكولومبيا، وجنوب أفريقيا، وتشيلي، حتّى إنّ الصين لم تستدعِ السفير الإسرائيلي، كما هو الحال مع هندوراس وتشاد وغيرهما. وأخيرًا، تجاهلت الصين تمامًا عسكرة واشنطن لإسرائيل في وثيقتها التي نشرت خلال الحرب، بعنوان "النفاق والحقائق حول مساعدات الولايات المتّحدة الخارجية "، في إبريل/نيسان 2024، إذ ذكرت الصين تاريخ عسكرة أميركا للحروب الدولية، منذ أربعينيات القرن الماضي، ولم تذكر إسرائيل قط، ولا الدعم السنوي العسكري، الذي تقدمه واشنطن إلى إسرائيل، وبالتالي، تبقى إسرائيل خارج سياق التنافس الصيني- الأميركي عالميًا.

شاع افتراضٌ في اغلب دراسات العلاقات الدولية مفاده: أنّ هناك "فراغًا" في الشرق الأوسط، بفعل "انسحاب" واشنطن من العراق، وأن الصين تسعى إلى ملئه، جميع الافتراضات التي تُبنى بعيدًا عن القضية الفلسطينية في ما يتعلق بسياسات القوى العظمى تجاه الإقليم، يجب إعادة مراجعتها، خصوصًا بعد الحرب الحالية، التي أثبتت أنّ لواشنطن اليد العليا، وأن بكين كثيرة المظاهر محدودة الفعل.

المساهمون