السوريون بلا صوت سياسي

19 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 21 أغسطس 2025 - 15:39 (توقيت القدس)
عسكري سوري يحرس مبنى مجلس الشعب (البرلمان) في دمشق (13/12/2024 Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- رفض الديمقراطية بعد الثورة: النخب العسكرية والفكرية في سوريا ترفض الديمقراطية، معتبرةً إياها طاغوتًا يتعارض مع رؤيتهم الدينية، حيث يرون أن التشريع يجب أن يكون لله وحده وليس للشعب.

- بديل الديمقراطية: تم اقتراح نظام "أهل الحل والعقد" كبديل، حيث تُحصر السلطة في النخبة المعتمدة على العلم والجهاد، مما يستبعد الإرادة الشعبية ويعزز التمييز بين النخبة والعامة.

- الواقع السياسي: بعد هروب بشار الأسد، لم تُجرَ انتخابات حقيقية، بل تمت التعيينات عبر توافقات مغلقة، ولم يُذكر مصطلح "الديمقراطية" في الخطاب السياسي، مما يعكس غياب الديمقراطية في سوريا تاريخيًا.

من بين أكثر الأوهام السياسية انتشاراً في خيال بعض السوريين، تلك الفكرة الرومانسية عن "سورية ديمقراطية" تُبنى بعد سقوط النظام، وتُحكم بصندوق اقتراع وتُدار بمؤسسات منتخبة. ... هذا الحلم، بكل أسف، لا يستند إلى أي أرضية واقعية، ليس فقط لأن الوقائع على الأرض تخالفه، بل لأن النخب العسكرية والفكرية التي تصدّرت المشهد بعد انتصار الثورة، من قادة فصائل ومشايخ شرعيين وشباب تعبويين، نشأوا على رفض صريح وعقائدي لفكرة الديمقراطية، على الرغم من أن الرئيس أحمد الشرع، أكّد في أكثر من مناسبة أن الحكومة الجديدة لا تنوي تصدير الثورة السورية إلى الخارج، ولفظ كلمة "ثورة" نفسها بات محاطاً بضبط سياسي محسوب.
لا يرى هؤلاء في صناديق الاقتراع وسيلة تداول سلمي للسلطة، بل صناديق شرك، وليس هذا المو ارتجالياً، بل يستند إلى تأصيل فقهي وفكري نشأ وترعرع في بيئات السلفية الجهادية منذ عقود.
بالنسبة لهؤلاء، الديمقراطية ليست آلية انتخابية، بل منظومة عقدية كاملة تجعل "الشعب" مصدراً للتشريع، في مقابل ما يرونه من ضرورة حصر التشريع بالله وحده. ويعتبرون كل قانون وضعي خروجاً عن الدين، وكل برلمان من معابد الكفر الحديث. في هذا السياق، كانت فتاوى رموز مثل أبي مصعب الزرقاوي حاسمة: الديمقراطية طاغوت، والانتخابات عبادة لغير الله، والمشاركة فيها كفر صريح، حتى ولو كانت بدافع "الوصول إلى الحكم لتطبيق الشريعة"، كما يزعم بعض الإسلاميين.
ولأن الديمقراطية مكروهة ومنبوذة في هذا التصوّر، كان لا بد من إيجاد بديل إسلامي "أصيل"، فطُرحت منظومة "أهل الحل والعقد" أداة شرعية لاختيار الحاكم. لا مكان فيها لعامة الناس، ولا للاقتراع العام، بل تُحصر في النخبة التي تُعرَّف على أساس "العلم، الجهاد، القوة، أو السبق في المشروع الإسلامي". في هذا التصوّر، لا يُعترف للعوام جميعاً بحقّ إبداء الرأي من حيث المبدأ، بل يردّ الأمر إلى من يسمَّون "أهل العلم والشرع والفقه"، فهؤلاء وحدهم من يملكون القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ في الشأن السياسي، كما في الديني، وهنا يتكرّس تمييز عميق بين "من يعرف" و"من لا يعرف"، وتُستبعد الإرادة الشعبية بدعوى الجهل والعاطفة.

لا بد للسوريين من مواجهة حقيقة الواقع الجديد، لا بوهم التمنيات بل بعقل التأقلم والتصالح

ليست هذه المنظومة استثناءً أو شذوذاً في الفكر الجهادي، بل هي التيار السائد في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل الإسلامية، وحتى التي حاولت تجميل نفسها سياسياً، كانت تفعل ذلك تكتيكاً لا إيماناً. وقد تكرّرت العبارة المألوفة في المجالس المغلقة: "نقبل بالديمقراطية مرحلياً... لكن الحكم في النهاية لله لا للشعب". إنها ثنائية المهادنة الظاهرة والمعتقد الراسخ.
ولم تكن الأشهر التي تلت هروب بشّار الأسد  إلا برهاناً على هذه العقلية. فمنذ الأيام الأولى لما سُمّي "التحوّل"، بدأت التعيينات تُجرى في النقابات والاتحادات المهنية والهيئات القضائية والإدارية بشكل مباشر، لا عبر صناديق انتخاب ولا عبر مشاورات شعبية، بل عبر توافقات مغلقة بين مشايخ وعسكريين ونخب شرعية، تحت مسمّى "الثقة" و"السبق الثوري". اللجان التأسيسية التي يجري الإعداد لها تحت عنوان "مجلس تشريعي" أو "هيئة تمثيلية" لم تُطرح للنقاش العام، ولم يصدر أي تصريح رسمي عن آلية اختيار أعضائها، ولا عن موعد أي عملية انتخابية قادمة. والأهم من كل ذلك، أن كلمة "ديمقراطية" لم ترد حرفياً على لسان أي مسؤول، من الرئيس الشرع إلى أصغر مسؤول في أقصى الشمال السوري، ولم تُذكر لا عرضاً ولا في سياق الخطاب السياسي أو الدبلوماسي، حتى في الاجتماعات التي جمعت ممثلين عن الحكومة الانتقالية بمسؤولي دول غربية وهيئات دولية وممثلين عنهما.
ولا بد من تذكير الواقعيين بأن سورية نفسها لم تعرف الديمقراطية عملياً إلا فترة قصيرة جداً لا تتجاوز أربع سنوات فقط، ما بين عام 1954 حتى نهاية عام 1958، حين أُلغيت الحياة البرلمانية بسبب الوحدة مع مصر، ثم لم تُستعد مطلقاً. منذ ذلك الوقت، وبالأخص مع حكم حزب البعث ثم وصول حافظ الأسد إلى السلطة، باتت البلاد تُدار بمنهج أمني صرف، قائم على الولاء الحزبي، والرقابة المطلقة على النقابات والمؤسسات والجيش والقضاء، مما أدى إلى تآكل النخب الليبرالية ونفيها أو احتوائها أو تصفيتها.
من يظن أن انهيار النظام سيؤدّي حتماً إلى ميلاد دولة ديمقراطية يسقط في فخّ المقارنة مع دول عرفت تداول السلطة ووجود النخب الليبرالية، أما سورية، فقد تآكلت نخبها. وهنا، لا بد للسوريين من مواجهة حقيقة الواقع الجديد، لا بوهم التمنيات بل بعقل التأقلم والتصالح مع النفس. فالحكم الذي تشكّل بعد الثورة لا يرى في الديمقراطية طريقاً، ولا في الاقتراع وسيلة. وما لم يدرك الناس أن الزمن المقبل لن يكون أكثر انفتاحاً من الذي سبق، فسيبقون أسرى آمال لن تتحقق، وأسئلة لن يُسمح لهم بطرحها.

المساهمون