الثقافة الكردية السورية سوريّة للغاية... هجرة وتهميش وتشتّت

05 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 09:45 (توقيت القدس)
مطبعة كتب في القامشلي باللغة الكردية (17/1/2017 فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت الثقافة الكردية في سوريا انتعاشًا مع الربيع العربي، حيث زادت المنتديات والصحف الثقافية، مما كسر الحواجز المفروضة من النظام السوري.
- تراجع الواقع الثقافي بسبب التسييس والصراعات الحزبية، مما أدى إلى غياب التعددية وتحول الثقافة إلى أداة بروباغندا، مع فشل المؤسسات في إنشاء كيانات مستقلة.
- هجرة النخب الثقافية إلى أربيل وأوروبا خلقت فراغًا محليًا، ولم تنجح في تحقيق نهضة متكاملة، لكن يبقى الأمل في الجيل الجديد لتجاوز التحديات.

ارتسمت ملامح ربيع ثقافي كردي مع بدايات الربيع العربي في سورية. طفرة في المنتديات والتجمعات الثقافية، وفرة في المحاضرات والندوات الحوارية والفكرية، سيولة في عدد الصحف المطبوعة الحزبية والمستقلة، والمجلات المعنية بالشأن الثقافي الكردي. بدا وكأنه تحولٌ عميق في المشهد الثقافي، وكسر للحواجز والضواغط التي كُبتت بها الثقافة والهويّة واللغة الكردية على زمن الأسدين الأب والابن.
لكن الواقع الثقافي اليوم يعيش حالة من التراجع البنيوي والفكري، بل ويُخشى أن يتلاشى أو يتراجع لمستويات سابقة، حيث مظاهر فلكلورية خاوية، وضعف شديد في التخطيط الاستراتيجي للثقافة الوطنية الكردية، مع تنازع للقوى السياسية على الفضاء الثقافي، إلى جانب تراجع الدعم وهجرة الكفاءات، وتسييس الفعل الثقافي.

الواضح من سياق تجارب العمل الثقافي الكردي خلال 14 عاماً أنها لم تستطع استثمار الفضاء العام للمضي قُدماً بخطوات جادة

كأي مجتمع وشعب عاش أهوال العنف والتسلط الأمني، من الطبيعي أن يمر بسلسلة من السلبيات أو الإيجابيات. لعل أهم ما في قضية الثقافة الكردية، وبخلاف أن النظام السوري محقها وسحقها، في معرض سعيه إلى إنهاء الهويّة والوجود الكرديين. لكن الصراع الحزبي بين الأطراف الكردية، هو الآخر لعب دوراً مؤثراً على رتم وتطوير الحقل الثقافي، الذي أساساً كان مقتصراً على جوانب محدّدة دون غيرها، نظراً للقبضة الأمنية سابقاً. حيث يرى الشاعر والصحافي هوشنك أوسي في حديثه لـ"سورية الجديدة"، من بلجيكا، بشأن كيفية تحوّل الفعل الثقافي إلى أداة سياسية بين الأطراف الكردية أن "الثقافة بمعناها العامّ الرّحب المنفتح، العصي على الأدلجة والتأطير، واستراتيجيّتها الاختلاف والتنوّع وغزارة الأفكار المختلفة والمتناقضة أحياناً، جرى تسييسها وتسميمها في المناطق الكرديّة السّوريّة". ووفقاً لأوسي، فإن الأمر لم يقتصر على تسييس الثقافة وحسب عند سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي، بل تخطى ذلك إلى أدلجتها بشكل فجّ، بهدف ترسيخ صورة طوباوية على أنهم ملائكة، طهرانيون، نوارنيون. ومع ذلك، يمارسون العنف (الثوري)"، وفقاً لتعبيره. وأضاف أن "الآلة الإعلاميّة والثقافيّة لهذه السّلطة اشتغلت على ضخّ كمّ مهول ومرعب من الأغاني والكليبات وإصدار المطبوعات والكتب التي تخدم الفكرة المذكورة آنفاً، بخصوص نمذجة وأسطرة العنف والسلاح".

في الاحتكار الحزبي للمشهد الثقافي

وفقاً لهوشنك، فإن الاتحاد الديمقراطي، ولكونه السّلطة في المنطقة، اعتبر "نفسه المُحرِّر، ومنح نفسه شرعيّة تقرير مصير كلّ شيء في شرق الفرات: أدب، ثقافة، سياسة، إعلام... مجتمع مدني! شأنه في ذلك شأن بعض النشطاء السّوريين الموالين لحكومة دمشق، حين يقولون: مَن يحرِّر يُقرِّر"، ويرى أن الإدارة الذاتية تقوم "بالاحتكار للفعل الثقافي وتجييره سياسياً"، على حد وصفه، مورداً مثالاً للتدليل على حديثه، بالقول "كُتبي ممنوعة في معرض (هركول) للكتاب الذي تقيمه هذه السّلطة سنوياً في القامشلي، لسبب بسيط أنّني كنتُ مع هذه الجماعة وافترقت عنها وانتقدها منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2011"، متسائلاً "هل لاحظت وجود كاتب واحد ينتقد حزب الاتحاد الديمقراطي أو حزب العمّال الكردستاني يظهر في إعلام سلطة الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة؟! أعطني أسماء ثلاثة أدباء ينتقدون هذه الإدارة وما زالوا يعيشون في أمن وسلام تحت سلطة الإدارة الذاتيّة".
وحول غياب التعددية الثقافية داخل الطيف الكردي ذاته، يرى أوسي أن "الحال الثقافيّة في ظلّ الإدارة الذاتيّة، على غزارة المنابر، عبارة عن بروباغندا تُمجّدُ دوما عقائديّة معيّنة"، شاملاً الطرف الأخرى في معادلة التمثيل السياسي الكردي "الحال المتدنيّة نفسها موجودة لدى المجلس الوطني الكردي، لكن بنسبة أقلّ بكثير ممّا هو حاصل في ظلّ الإدارة الذاتيّة". ويختتم هوشنك أوسي حديثه بالقول: "أنظر إلى المشهد السوري حاليّاً، هل يمكننا الحديث عن وجود شيء آخر غير البؤس والتسييس والطائفيّة والتخندق القومي والإيديولوجي يعصف بالمثقفين السوريين عموماً"، ربّما يقول قائل "الحال الثقافيّة في ظلّ الإدارة الذاتيّة أفضل ممّا هي عليه في حلب وإدلب ودمشق. هنا، تكمن المفاضلة بين السيئ والأكثر سوءاً، وليس الجيّد والأكثر جودةً".

المؤسسات الثقافية الكردية: عرجاء مؤدلجة أم غائبة؟

الواضح من سياق تجارب العمل الثقافي الكردي خلال 14 عاماً أنها لم تستطع استثمار الفضاء العام للمضي قُدماً بخطوات جادة. يقول الكاتب عبّاس موسى من القامشلي إنه "على المستوى المؤسسي لم تنشأ مؤسسات ثقافية مستقلة قادرة على الصمود، وعلى الرغم من بزوغ بعضها، وكانت مشاريع لها خصوصيتها وطابعها الإبداعي، إلا أنها لم تستطع الاستمرار، وبالإمكان على سبيل المثال ذكر مشروع مجلة سورمَي (مؤسسة جاجرا الثقاقية)، ومشروع هنار الثقافي". ويُرجح عبّاس الأسباب الأساسية لعدم استمرار تلك المشاريع إلى "موضوع التمويل للقطاع الثقافي الذي لم يستطع حلّ المسألة، فمن جهة لم يكن متاحا جلب الدعم من المؤسّسات الأوروبية والأميركية التي خصّصت مواردها للقطاعات التنموية، وخصصت جزءا منه للإعلام، لكنها لم توجه هذا التمويل للقطاع الثقافي"، إضافة إلى أن محاولات الاستفادة من هذه المنح "كما في تجربة مجلة شار بإصدار مجلة أنيقة من حيث الشكل وغنية من حيث المحتوى الإعلامي - الثقافي، إلا أنّ المانحين ساهموا في الابتعاد عن هذا المنحى". ويتحدث عباس عن دور الإدارة الذاتية في دعم القطاع الثقافي، قائلاً "لم تلجأ إلى تقديم خطة لدعم المؤسّسات الثقافية المستقلة، ولجأت إلى بناء مؤسسات تابعة لها، لكن مقاربة نقدية لأداء مؤسساتها الممولة من قبلها يُظهر ضعف الموازنات المرصودة لها، وهنا أخصص الحديث على هيئة الثقافة. وظهر جليا مجهود كبير لمؤسسة اللغة الكردية على الرغم من وجود نقص التمويل أيضاً، إلا أنّها استطاعت تقديم منتج ثقافي كردي ذي طابع عام ومستقل". ووفقاً لعباس، برزت بعض "المؤسسات ذات الطابع الفني الثقافي تتبع لقسم الثقافة والفن ضمن حركة المجتمع الديمقراطي، وعلى مدار سنوات استطاعت تقديم مُنتج وأعمال فلكلورية ذات جودة وقيمة عالية، لكن ما يؤخذ عليها أنّها صبغت بعض مُنتجها بصبغة أيديولوجية". 

هجرة النُخب وضياع السردية

تقول بعض النُخب إن نهضة ثقافية كردية لم تنجز على الشكل المطلوب، رغم مُلامسة خصوصية اللوحة الثقافية الكردية، بشكل أخص خلال السنوات الأخيرة السابقة لانتفاضة الشعب السوري، وذلك رغم سياسة التنكر للهوية الكردية وقمع كل ما يمت لها بصلة من إبداع أو فكر، والاستفادة من رتم هوامش الحرية والحركية الثقافية خلال الثورة، لكن الشتات والهجرة أثرت بدورها في الواقع الثقافي. ووفقاً للقاص والكاتب المسرحي، أحمد إسماعيل، الذي تحدّث لـ"سورية الجديدة" من ألمانيا، حيث منفاه الاختياري، حول نتائج الهجرة القسرية للكتاب والمثقفين الكرد في سورية وتسببها بفراغ ثقافي محلي، قائلاً "انقلب الوضع الثقافي من ثورة أرجوانية إلى حمراء، جعلت من العسير على المبدع الكردي الجمع بين الحصول على الرغيف والعيش بأمان وممارسة الإبداع في آنٍ واحد. وهو ما جعل الكثير من المبدعين يلجأون إلى ساحة أخرى غير الإبداع، ولو مؤقتاً، أو الهجرة إلى خارج البلد، الأمر الذي سبب شرخاً بين الأجيال، جيل صاعد افتقد لمن يرعى ويرافق مسيرته الإبداعية، وإلى المرجع الثقافي المحلي الحي، من جانب، وانقطاع المبدعين المهاجرين عن ينابيع وحواضن إبداعهم، من جانب آخر". ويعتقد إسماعيل أن ضعف الساحة الثقافية وتمزق لوحتها، لأسباب قال إنها معروفة للجميع، سمحا "للخطاب السياسي أن يتغول على الخطاب الثقافي، ويقلص مساحات النقد والمساءلة وحتى التجريب والإبداع".

نتيجة لهجرة المثقفين والكتّاب السوريين الأكراد، فإن أربيل وأوروبا تحولتا إلى أفضل مناطق اللجوء لهم

ويجول إسماعيل في فضاء الثقافة الكردية في سورية ومدى تغذيتها من الخارج أو الداخل، معتقداً أن الثقافة الكردية بعد الزلزال السوري المدمر "تراجعت عن التحليق في فضاءات ليست كلها حقيقية إلى التقوقع في أطر ضيقة نوعاً ما، لنشهد حالة من عدم التواصل مع الشارع الغارق في عتمة الفقر والخوف والتوجس"، منتقداً راهن الثقافة الكردية حالياً، وقال "كل ما نشهده في الداخل من نشاطات ثقافية: مهرجانات مسرحية، دور نشر، معارض كتب ضخمة، ندوات ومحاضرات، ومعاهد سينما ومسرح وموسيقى، والأهم من ذلك كله: التعليم باللغة الكردية، والذي كان حلماً كردياً في سورية، إلا أن التحليق في الفضاء السياسي والحزبي الضيق بدّل فضاءات الإبداع.. جعل هذه الأجنحة ضعيفة لا تقوى على الطيران". هذا الصراع بين الثقافي والسياسي، "انعكس سلباً على الإبداع في الداخل والخارج، بسبب قلة الهواء الثقافي في الفضاءات الحزبية والسياسية عامة. ثمة أسماء تظهر وتتألق، وثمة إبداعات لها حضورها في المشهد الثقافي، غير أن ذلك لا يمكن أن يتحوّل إلى نهضة. فالبيئة ما زالت هشّة، ولن تستعيد قوتها إلا بعودة المبدعين إلى نبع الإبداع الأساس: الواقع وجمهوره، والتقاط اللحظة الحاضرة والتعبير عنها بصدق وعمق".
وكنتيجة لهجرة المثقفين والكتّاب، فإن أربيل وأوروبا تحولتا إلى أفضل مناطق اللجوء، بل يتساءل البعض عما إذا كان المنفى قد تحول لحواضن للمثقفين وهمومهم أكثر من قامشلو وعامودا ودمشق.
حول هذا التغيير، يرى إسماعيل ضرورة "التفرقة بين أربيل وأوروبا من حيث الدور والمحدودية، تمتاز أربيل إضافة للقرب الجغرافي بأنها امتداد لغوي وقومي للكرد السوريين، وعمق استراتيجي للقلب والفكر والروح، ولكن، وإذا كانت أربيل قد احتضنت أسماء وطاقات كردية سورية كثيرة، فإن هذه الطاقات تم استثمارها لصالح الثقافة والماكينة الثقافية والإعلامية الكردية في كردستان الجنوبية، وهذه الحقيقة العيانية لا تنفي وجود الأنشطة ذات الطابع الكردي الخاص، وخاصة في مجال الإعلام". أما في أوروبا، حيث الفضاء الحر، والظروف المتاحة مادّياً خاصة، "إلا أن التحليق حتى اليوم يكاد يكون مجرد فردي، وليس في سرب صغير أو كبير، إذ لم تشهد أوروبا، حسب معلوماتي المتواضعة، ظاهرة ثقافية كردية لها خصوصيتها وعلاماتها الفارقة، سوى بعض النشاطات والتجمعات غير البعيدة في شكلها ومضمونها عمّا يجري في الداخل، رغم بروز أسماء كبيرة وفاعلة في مجال الإبداع: الرواية خاصة، والشعر والتشكيل والسينما والمسرح، بيد أن هذا النهوض والتألق مهددان بالزوال لعدم تبلورهما ضمن إطار محدد: كمدرسة أو منهج أو هويّة، وهو ما سيدفع الجيل الجديد إلى الذوبان في ثقافة البلد الذي هاجر إليه في حال غياب الجيل السابق"، مختتماً حديثه بالقول "باعتقادي أن الثقافة الكردية السورية ما زالت تبحث عن حاضنتها". 

بالرغم من الانبعاث الملحوظ للواقع الثقافي الكردي في سورية، عقب اندلاع الثورة، لكن تلك النهضة تحولت تدريجياً إلى خريف قاتم بفعل عدة عوامل مركبة

مثقفون مؤيدون لاستثمار طاقاتهم

يتنقل الكاتب ورئيس تحرير جريدة كوردستان عُمر كوجري بين أربيل وألمانيا، ولا يجد حرجاً من عمل الكاتب والمثقف الكردي السوري في أربيل، حيث "برز منها ما يشير الى استقلال قرارها المهني وعدم تبعيتها للكتل الحزبية السياسية الكردية". ويُعيد كوجري وجود النُخب الثقافية الكردية في ألمانيا وكردستان بهذا الزخم إلى "المقتلة السورية، وفتح أربيل أبوابها وقلبها للسوريين بمختلف مشاربهم، والكثير من هؤلاء أثبتوا نجاحات باهرة، وتصدروا المشهد الإعلامي في إقليم كردستان". ووفقاً لكوجري، فإن "أربيل صقلت مواهب الكثير من الإعلاميين والمثقفين الكرد، وفي سورية الجديدة سيكون لهم دور قوي ومؤثر في قطاع الإعلام والثقافة لكونهم يملكون خبرة كبيرة اكتسبوها في مجالات عملهم في وسائل الإعلام ومراكز ثقافية في إقليم كردستان".

هل ثمة صراع ثقافي بين الأجيال

أما الكاتب واللغوي هنر جنيدي، فيتحدّث لـ"سورية الجديدة" من السويد قائلاً: "الكتابة والثقافة بالنسبة لجيلنا، جيل الشباب، تحولتا إلى ترف وحسرة، فالظروف التي نعمل بها في المهجر تفرض علينا ما لا نحبه"، مضيفاً حول أدوار الشباب في تجديد المشروع الثقافي الكردي: "ليست رهينة ذاكرة الأجيال السابقة أبداً. بل إن تجديد مركزية المشروع الثقافي هو عملية تراكمية. فطالما استمر المجتمع الكردي بالحياة والعمل، فإن ذلك يفرض وجود أجيال مهتمة ومشغولة بالهم الثقافي والتجديد. والعمل وفقاً للعصر والوقت الحالي"، وإن المشاكل اليومية التي تظهر كنتيجة للواقع الثقافي يجب أن "ننظر إليها نحن جيل الشباب باعتبارها ليست إلغاءً للأجيال التي قبلنا، بل يتوجب العمل على أسس الاستفادة من نتاجات من سبقونا، وتقديم التجديد والبناء لمن سيأتي من بعدنا". 
ختاماً: بالرغم من الانبعاث الملحوظ للواقع الثقافي الكردي في سورية، عقب اندلاع الثورة، لكن تلك النهضة تحولت تدريجياً إلى خريف قاتم بفعل عدة عوامل مركبة: هيمنة الأحزاب وتسييس الثقافة، ضعف المؤسسات، هجرة الكفاءات وضياع السردية الثقافية الجامعة. وحالياً، يقف المشهد الثقافي الكردي أمام طرق متعرجة: ما بين الاستمرار في الدوران داخل دوائر الأدلجة والانقسام، أو إعادة إنتاج ذاته من خلال مؤسسات ثقافية مستقلة، ورؤية نقدية منفتحة، وشبكات تواصل تتجاوز أطر الولاءات. فالثقافة لا تزدهر تحت الوصاية، بل تحتاج لحرية التعبير، ولمساحاتٍ واسعةٍ من التنوّع، كي تنهض من جديد وتلعب دورها الطبيعي في صون الهويّة وتطوير المجتمع.

المساهمون