الثرثار

27 مايو 2025   |  آخر تحديث: 11:48 (توقيت القدس)
(خالد خليفة)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يشير التاريخ إلى التغيرات الكبرى مثل الحروب وانهيار الأنظمة، مع ظهور علامات مشابهة لانهيارات سابقة في نظام الأسد، حيث سادت الفوضى والفساد وارتفعت المعاناة.
- في صيف 2023، بدت دمشق وكأنها تحتضر، مما دفع الكاتب للتفكير في اللحظات التاريخية الفارقة التي تحتاج إلى من يلتقطها ويقود التغيير، محذراً من أن الفرصة قد لا تدوم طويلاً.
- رغم التوترات، يظل الكاتب مؤمناً بقدرة الشعب السوري على تجاوز الأزمة من خلال الوعي بالمسؤولية الجماعية والتقاط إشارات التاريخ لإعادة بناء بلدهم.

إحدى الصفات التي لم ينتبه إليها معلمنا الكبير ابن خلدون في توصيفه علم التاريخ، أنه ثرثار أيضاً، فالتاريخ من ذلك النوع الذي لا يستطيع الاستعانة على قضاء حوائجه بالكتمان، وينثر هنا وهناك إشاراتٍ واضحة عمّا ينوي فعله، ربما يكتم متى سيفعل ذلك، ومن بالضبط سيكلف بتنفيذه، لكنّه يقول دائماً: هذه الحرب ستنشب، هذه الحرب ستبرد، سأنهي هذا النظام، سأمزق هذه الدولة إلى دويلات، سأذيب القطب الشمالي، وربما أثقب الأوزون في الطريق إلى ذلك...
في العامين الأخيرين من عمر نظام الأسد، غمزنا التاريخ مرّات كثيرة، ذكّرنا بما جرى في السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، وبما جرى قبيل انهيار المماليك، وبما يفعله بشّار، الذي جعل القصر تحت حكم الجواري، وسلّط السفلة على أعناق الناس، وسّع السفربرلك، ورفع الإتاوات وسعّر الخبز، أعدم الأصوات الوطنية، وفوق ذلك كله، انحبس المطر، وأرسلت إلينا الطبيعة سرب جراد.
في أواخر صيف 2023، كنت أمشي ليلاً في دمشق رفقة الصديق الراحل خالد خليفة، وكنا ننبّه بعضنا إلى علامات الاحتضار في الجدران ووجوه الناس وبلاط الرصيف. كان كل شيء في المدينة يوحي بأنها الحلقة الأخيرة، ليلتها كتبت:
لا أعرف لحظة فارقة في التاريخ إلا ويمكن البدء بوصفها هكذا: ... ثم ظهر فلان فالتقط اللحظة. وبدل فلان يمكن قول: معاوية، عبد الملك، المنصور، محمد الفاتح، إيزابيلا، جورج واشنطن، لينين، الخميني، عادل إمام، بيل غيتس، بوتين، كوداك، ياهو، تشرشل...
في الشوارع ووجوه الناس، أرى بأم عيني لحظةً تبحث عن مُلتقِط، لحظةً تليق بمنذور.
كانت تلك النتيجة واضحة لكل واثق بالتاريخ. وأظن ما جرى، وكيف جرى، تعطينا المزيد من الثقة بالتاريخ، وبثرثراته المتدافعة حول ما ينوي فعله.
اليوم يخبرنا أنه أعطانا فرصة، ولكنه يغمز أنها قصيرة، ومحدودة ووحيدة، وفي بعض إشاراته يكاد يقول لنا: إنها الأخيرة فالتقطوها. والمنذور هذه المرّة جميعكم معاً.
لم يضجر منّا، وما زال، بكل حنّو، يزيل الألغام من طريق الفرصة التي منحنا إياها، ولكن لا أحد يعرف إلى متى سيستمر بذلك، وما هو الحدث الذي قد يفعله أي واحد منّا، ويجعله يغضب ويقول: انتهت الفرصة، لم تستحقوها.
رغم كل ما يظهر على السطح الآن من شعبوية وعنف وطائفية ولغة ثأرية ودعوات انقسام، ما زلت أثق بمنطق التاريخ، لذلك ما زلت أثق بالسوريين، وأؤمن أن الحفر في عمق المجتمع السوري سيظهر وجهاً معاكساً تماماً لنوبة التوتر التي تعصف به الآن.
حتى أولئك الغاضبين الذين ترتفع أصواتهم في وجه المخالفين لهم، يفعلون ذلك، بدافع غيرتهم وحرصهم على بلد اسمُه سورية، صحيح أنهم يفعلونها بالطريقة السيئة، وبمحاولة فرض ما يرونه صحيحاً، دون أن يعطوا أنفسهم الفرصة للنظر مجدداً في ما يقولون، وترك المجال مفتوحاً أمام احتمال بعض الصواب في الرأي المخالف لهم.
يحدث ذلك في مرحلة بالغة الحساسية، لذلك لا يمكنني التعامل معها إلا أنها مؤقتة، وأنها نتاج المرحلة. وستتغير الأحوال بتغير الأحوال، سيتغير الواقع بتغير انتباهنا لمسؤوليتنا جميعاً اتجاه كل كلمة وكل فعل وكل نظرة، وبالتقاطنا لإشارات التاريخ، القدر، الذي أعطانا فرصة.
سنعبر هذه الأيام العصيبة، ستعقل تلك الأصوات المجنونة، سنعمّر هذا البلد مجدداً، سنعمره معاً.
سننجو. أخبرني الثرثار بذلك.

المساهمون