أسئلة إعادة الإعمار... فرصة متاحة لإعادة الثقة بين الإنسان والمكان

04 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 08:39 (توقيت القدس)
دمار في حي الخالدية في حمص (10/2/2025 فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- إعادة الإعمار في سوريا تتجاوز البناء المادي إلى إعادة بناء الروابط الاجتماعية والثقة بين الإنسان والمكان، مع التركيز على نماذج تنظيمية حديثة لتجنب العشوائيات وتحقيق التوازن بين المدينة والريف.

- التخطيط يتطلب مشاركة المجتمع المحلي والجهات الدولية، مع التركيز على إشراك المجتمع الأهلي وتفعيل دور البلديات، واستثمار الأبنية شبه الجاهزة في المدن الكبرى بدعم من المؤسسات الدولية.

- تنمية الريف من خلال استصلاح الأراضي وبناء قرى زراعية جديدة لتعزيز الأمن الغذائي والحد من هجرة الشباب، مما يعيد التوازن السكاني والاقتصادي ويدعم التنمية المستدامة.

في سورية، حيث تتوالد من العناوين الرئيسة لإعادة الإعمار سطور تتجاوز جملها الإيحائية والواقعية ما تهدم من جدران لتطاول الأحلام والنفوس والروابط الاجتماعية التي تصدّعت بفعل الحرب، فالركام الذي يمتد على مدار المكان والزمان السوري ليس مجرّد مشهد بصري يخدش عيون الرأي وضميره، بل ذاكرة باكية، وحنين جفّ دمعه نتبادله مع البيوت التي غاب عنها سمر الشتاء وقمر الصيف وشغب أقلام الأولاد على حيطانها البيضاء، فهل إعادة الإعمار يمكن اختصارها فقط بطلب النجدة من الإسمنت ليؤوينا فوق أرض مثقلة ذاكرتها بالألم؟ أم أنه فرصة للبحث عن بدايات جديدة، عن نماذج تنظيمية حديثة تبعدنا عن إعادة استنساخ العشوائيات وسلبياتها البيئية والبصرية والحياتية، لنعيد الثقة إلى التوازن بين الإنسان والمكان، بين المدينة والريف، بين الماضي والمستقبل؟ أم أن الأولوية، في ظل ما يحيط بنا مِن ركام، تطالبنا بتجاوز جميع تلك الشروط لتأمين سقف ضمن المتاح إلى من خانهم انتظار العودة الآمنة إلى أحيائهم من اللاجئين والمهجرين وسكان المخيمات؟ 

 

تشير تقارير إلى أن نسبة النقص في الوحدات السكنية بحدود 1.5 مليون وحدة، مع حاجة سنوية لبناء حوالي 87 ألف وحدة سكنية على الأقل للحفاظ على هذه الفجوة فقط

يبدو تحديد الأولويات غير متاح في ظل الواقع الراهن، لترابطها بخيط سري جامع مع صعوبة إجراء مسح وطني كامل فوق أرض تعاني من تمزق مكوناتها الاجتماعية تحت يافطات "عرقية - طائفية - دينية" تحرسها مليشيات مسلحة تعيق الانتماء إلى سلطة الدولة الأم، المكلفة حصرياً بالإشراف على مشاريع إعادة الإعمار وتحديد الأولويات بناء على دراسات دقيقة يحدد من خلالها التكلفة المادية الحالية والمستقبلية وطريقة الحصول عليها، وتوزيعها على مناطق الاستثمارات التنموية والعقارية بعدالة تضمن الحقوق والواجبات بين مؤسسات الدولة والمنظمات الدولية المانحة والمستثمرين المحليين والشركات القادمة من الخارج لهذه الغاية، إضافة إلى إحصائيات  شهرية تحدد عدد الوافدين إلى كلّ تجمع سكني وأصحاب الحاجة الماسة للإقامة فيها، وعدد الأبنية السكنية الشاغرة، في كلّ مدينة ومدى جاهزيتها من الناحية الإنشائية والمعمارية والخدمية، ومع غياب تلك الدراسات والإحصائيات الرسمية فإن القرارات المتخذة بهذا الشأن من قبل أجهزة الدولة المعنية تبدو غير منسجمة مع الواقع في أكثر الأحيان، إلاّ أن الحلول ما زالت متاحة لتلافي الحد الأدنى من السلبيات النامية وسط هذا الفراغ، من خلال إعادة النظر بالتقارير الرسمية السابقة، والتقارير الصادرة عن الجهات غير الرسمية المهتمة بهذا الأمر، وحوكمتها بالاعتماد على وجهات نظر المجتمع الأهلي والقاطنين في تلك الأحياء والقرى وإعطاء مجالس المدن والبلديات صلاحيات تتيح لها المشاركة الفعالة في إعادة الإعمار، فهناك تقارير غير رسمية ومشاهدات عينية تشير إلى أن هناك في داخل المدن (دمشق، حلب، حمص، اللاذقية) أبنية شبه مكتملة، وكثيرا من هذه الأبنية غير مأهول بسبب هجرة سكانها، أو بسبب أضرارٍ وقعت عليها  جرّاء  الحرب والكوارث الطبيعية على مدار السنوات السابقة، كما هناك على أطراف المدن الكبيرة، خصوصاً في مناطق التوسع السكني، مشاريع سكنية تحتوي بطوابق أبنيتها المتعدّدة على آلاف الشقق شبه الجاهزة، وقياساً مع تكلفة بناء ضواح وأبنية جديدة، والمدة غير القصيرة اللازمة لإنجاز مثل هذه الضواحي، تبدو الجدوى من إعادة استثمار تلك البيوت والمشاريع السابقة من الأهمية بمكان، إذ لا يحتاج معظمها سوى لبعض التشطيبات الداخلية وبتكلفة مادية بسيطة، يمكن تأمينها عن طريق تشجيع الأفراد على إعادة استثمارها من خلال تقديم التسهيلات الإدارية واللوجستية، وتقديم القروض الحسنة لصغار المستثمرين المحليين وأصحاب المسكن، إضافة إلى واجبات الدولة في مجال تأمين خدمات البنية التحية الضرورية (كهرباء، ماء، اتصالات، خدمات صحية، مدارس، طرقات) أو إعادة ترميمها وإصلاحها في حال توفّرها سابقاً، كما يمكن الاعتماد على جزءٍ من تأمين تلك الخدمات على المنح المقدمة من المؤسّسات الدولية غير الربحية العاملة في سورية، ولا بد من  تيسير الإجراءات الإدارية الخاصة بضمان الملكية، لتصبح، في فترة وجيزة، قادرة على استقبال طالب الحاجة، وإن لن تتجاوز مثل هذه الحلول والإجراءات طابعها الإسعافي في الوقت الراهن، إلّا أنها تساهم، ولو بشكل بسيط، بردم الفجوة السكنية في البلاد، والتي تبدو قاعدتها الأساسية موغلة في قدمها إلى ما قبل هذا التاريخ، فقد أشارت تقارير سابقة إلى أن نسبة النقص بحدود 1.5 مليون وحدة سكنية، مع حاجة سنوية لبناء حوالي 87 ألف وحدة سكنية على الأقل للحفاظ على هذه الفجوة فقط. وهذا يضيف إلى محاولات تجاوز الأزمة السكانية تحدّيات  تبدو خارج السيطرة على المستوى القريب، إلّا أن إعادة الإعمار تتطلب من الجهات المسؤولة عدم المثول أمام اليأس صاغرة، وإنما السعي الدائم لوضع بداية تعتمد نقاطها على استراتيجية تتبنى سياساتها التخطيطية نهجاً عقلانياً يأخذ بعين الاعتبار الواقع القائم، إذا لا يمكن العمل على التوسع الأفقي أو العمودي لبناء كتل سكنية جديدة دون تقييم فعلي للمخزون السكني السابق غير المستخدم، وتحديد قابليتها للتأهيل، مع تجميد العمل في الأبنية المدمرة بالكامل، وضع خطط وحلول لاستثمار مساحاتها في بناء حدائق حضرية، تساهم في تحسين البيئة المناخية المحلية، وتوفير مشهد بصري جدير بأن يكون فسحة مستدامة يحتاجها أهالي الحي للتنفس، وخصوصاً في المدن الكبيرة.

تنمية الريف والسماح ببناء قرى زراعية جديدة في البادية السورية مع وضع خطّة لاستصلاح أراضيها ضمن مشروع إعادة الإعمار سيعيد للمدن السورية توازنها السكاني والبيئي والاقتصادي

أما بخصوص القرى والبلدات الصغيرة، فإن استراتيجية إعادة الإعمار مُطالبة بالإسراع بوضع مخططات تنظيمية تمنع من خلالها قضم العمران للمساحات الزراعية بشكل عشوائي، وتحافظ بذات الوقت على الطابع المعماري المحلي لأهميته في الحفاظ على الخصوصية الثقافية  لكل قرية. ولا بد من أن يُؤخذ بالحسبان إشراك الأهالي في التخطيط وتحديد الأولويات لإعادة الإعمار في القرية، لما لهذا الدور مِن أهمية في إعادة الروابط المجتمعية، والتي لا بد منها في أي مجتمع ريفي لتبادل الخبرات والأوجاع والأفراح وتحفيز الجانب الأمني بين السكان لقدرته على المساهمة في عملية الاستقرار اللازمة  للارتقاء بالخط البياني للعملية الإنتاجية بشقيها الحيواني والزراعي، إلى مستوى التنمية المستدامة التي تتجاوز في أهدافها حدود تلك الحواضر، لتصل إلى المساهمة الفعالة في الأمن الغذائي للمدن المجاورة، وقد يتجاوز هدفها الأخير الحدود السورية في المستقبل، ليكون ريعها شريكاً مالكاً في إعادة الإعمار والحد من هجرة الشباب من الريف إلى المدينة على المستوى البعيد.  تحقيق هذا لا يبدو من المستحيل، لا بل إنه يمكن أن يكون من ضمن أسباب النجاة قريبة المنال، إلّا أن نجاحه مرهون بتقديم الدعم اللازم لهذه الحواضر وللقطاع الزراعي بشكل خاص، هذا القطاع الذي عانى في العقود السابقة من الإهمال، ما دفع جزءاً كبيراً من العاملين به إلى الالتحاق بإحياء المدن العشوائية طلباً للقمة العيش. لذا فإن تنمية الريف والسماح ببناء قرى زراعية جديدة في البادية السورية مع وضع خطّة لاستصلاح أراضيها ضمن مشروع إعادة الإعمار الأمر الذي سيعيد للمدن السورية توازنها السكاني والبيئي والاقتصادي. فالريف ليس هامشاً بل شريك في الإنتاج والثقافة والهوية، وإعادة الإعمار ليست دراسات هندسية وجدران قائمة وأسقف من الإسمنت المسلح فقط، بل فرصة للتأمل بالمعنى العميق للتنمية، للإنسان، للحياة، وبما وقع علينا جرّاء الحرب من وجع، والأخذ بتلك الثلاثية حافزاً للتغلب على تحديات التكلفة المادية، وفرص العمل والعيش المشترك، هي بحث عن حلول لصدمة الأجيال التي تفتح وعيها على ثقافة الفرقة وأصوات البنادق وصرخات الموت.
في سورية، تتجاوز إعادة الإعمار المتطلبات اللوجستية المتعارف عليها في المدن العامرة فقط، هي فعل سياسي، تربوي، تعاوني، وحوار وطني شامل، لإعادة الثقة بالمستقبل، بالذاكرة، بالروابط التي جمعتنا في الماضي أمة لها تاريخها وثقافتها ومستقبلها، وتسخيرها لرسم بدايات جديدة، بدايات لمن يملك الجرأة على استعادة الحلم من  تحت الأنقاض، وفرصة تشاركية للإصغاء إلى صوت الإنسان فينا.

المساهمون