وما زال اختزال فلسطين متواصلاً

وما زال اختزال فلسطين متواصلاً

06 اغسطس 2016
"12 نافذة" لـ منى حاطوم
+ الخط -

جغرافية فلسطين، أرضاً وسكاناً، يتواصل اختزالها يوماً بعد يوم، فعلى الأرض، وبعد أن استعمر المحتلون الصهاينة الغرباء ساحلها، سحب ما نسبته 80% من أرضها وألصقت به تسمية متخيلة اسمها "إسرائيل"، وأصبح شرقها بعد أن تم إلحاقه بمستعمرة بريطانية أقامها الإنكليز شرقي نهر الأردن "ضفة غربية" نسبة إلى النهر، وأعطي شريط ساحلي ضيق في جنوبها بطول يقارب 30 كم اسم "قطاع غزة" تحت الإدارة المصرية.

وحتى بعد أن احتل الغرباء الصهاينة شرقي فلسطين وشريط غزة في العام 1967، ولم يعد شرقي فلسطين جزءاً من شرقي نهر الأردن، ولا قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، ظلت تسمية الضفة والقطاع ملصقة بهذين الجزأين من فلسطين.

وترافق مع هذا الاختزال ما هو أسوأ؛ محو تاريخ فلسطين القديم وإحلال تاريخ متخيّل مستمد من حكايات لاهوتية لا تمت بصلة للتاريخ والجغرافية، ومحيت أسماء مدن فلسطينية وحلت محلها في الثقافة الغربية والمناطق التي هيمنت عليها أسماء غريبة عنها، بل واضطر حتى العربي، والفلسطيني بخاصة، حين يخاطب العالم، إلى استبدال اسم "أورشليم" بالقدس، و"حبرون" بالخليل و"شخيم" بنابلس و"جافا" بيافا و"اشكولون" بعسقلان.. وهلمجرا.

وانتحل الغرباء الصهاينة حتى اللهجة والأطعمة واالأزياء والأغاني الفلسطينية، بل وسطوا على التراث الشعبي الفلسطيني ونسبوه إلى التراث الشعبي اليهودي، ولم يعد أحد يتذكر الباحثة السويدية "هيلما غرانكفست" التي أقامت بين العامين 1925و 1931 في قرية أرطاس وأثبتت استقلالية التراث الفلسطيني، وبطلان مزاعم الصهاينة.

واليوم يحدث الأسوأ، ففلسطين يتزايد اختزالها، فلم تعد مجرد بضع بقع أرضية تتضاءل وتمحى يوماً بعد يوم في ما تسمى الضفة الغربية التي تلتهم أراضيها المستعمرات الصهيونية، بل ويتم اختزال فلسطين واختصارها فتتحول إلى شريط ساحلي ضيق اسمه قطاع غزة.

وحتى حين تود فضائية عربية الإشادة بالمقاومة في عدة بلدان عربية تكتب "مقاومة الجزائر ولبنان وغزة"! ولا تكتب "فلسطين"، مما يوحي بأن ثمة نهجاً يجري تكريسه؛ حشر فلسطين كلها، في الماضي والحاضر وفي ما يأتي من أيام، في جرة اسمها غزة. وحتى هذه المدينة الفلسطينية، وما حولها من قرى على شريطها الساحلي، لم تعد تمثل قضية تحرير وطن أو جزء من وطن اسمه فلسطين، بل هي معاناة إنسانية لما يقارب المليون والنصف إنسان محاصرين يحتاجون إلى ميناء ومطار وممرات تغذية.

***

فلسطين، أرضاً وشعباً وعلامات وأسماء، لم تستطع لا الثقافة العربية، ولا الجزء الفلسطيني منها، تثبيت جغرافيتها في اللغة، ونقلها إلى الفكر، وجعل الناطقين باللغات الأجنبية يأخذون بها. وأصبحت تضحيات ودماء المقاتلين والشهداء التي فرضت ذات يوم على اللغات الأجنبية نطق لفظة "الفدائي"، ولفظة "الانتفاضة" مجرد ذكرى.

معنى هذا أن استعمار المخيلة بدأ يتحقق بعد استعمار الأرض، وبدأت رقعة الوعي تضيق وتتقلص إلى درجة أن أعلام المنظمات الفلسطينية الخضراء والبرتقالية والسوداء بدأت تطغى على المشهد في المسيرات والتظاهرات، ويتضاءل وجود العلم الفلسطيني، أو يتراجع إلى الخلف كما لو أن هناك سعياً إلى تحويل قضية احتلال وطن وتشريد سكانه إلى قضية بحجم شريط ضيق من الأرض اسمه قطاع غزة، يعاني من حصار ستنتهي مشكلته إذا فتحت أمامه طرق بحرية أو برية أو جوية.

ويأتي بعد اختزال فلسطين بشريط غزة، اختزال غزة ذاتها إلى مجرد بقعة تعاني من مشاكل إغلاق معابر وبحر وفضاء، أو هي مشكلة إنسانية شأنها في ذلك شأن أي مشكلة تعانيها أي بقعة في العالم محرومة من وسائل العيش، وليست جزءاً من وطن محتل ومستعمر اسمه فلسطين.

(كاتب فلسطيني/ الكويت)

المساهمون