لعنة الخلاص اليهودي: حين لاحت الأرض في الأفق

لعنة الخلاص اليهودي: حين لاحت الأرض في الأفق

03 يوليو 2016
+ الخط -

في سبتمبر/ أيلول 1492م، أبحر كريستوفر كولومبوس، برعاية فرديناند وإيزابيلا، بحثاً عن عالم جديد. دشّنت رحلته حقبة جديدة. في ذلك العام، كان العالم على موعد مع تحولات سياسية واقتصادية وثقافية كبرى.

كانت إسبانيا تتحول إلى إحدى الدول المركزية القوية، فزواج فرديناند وإيزابيلا وحّد مملكتي قشتالة وأراغون، وانطلقا على إثره لتوحيد الممالك المسيحية في شبه القارة الإيبيرية. في يناير/كانون الثاني، استسلمت غرناطة، آخر زفرات المسلمين في الأندلس.

الالتزام الأيديولوجي، في إسبانيا الكاثوليكية، لم يوفر تسامحاً مع مؤسسات حكم ذاتي، فصدر في مارس/ آذار مرسوم يقضي بتخيير اليهود بين الطرد والتحّول إلى المسيحية. عبَر كثيرون الحدود، وبقي المتمسّحون منهم تحت الرقابة الصارمة لمحاكم التفتيش، التي اسْتكمَلت، بدورها، عملية التوحيد القومي. كان طرد اليهود الأشكيناز مستمراً، فبحثوا عن موطئ قدم في بولندا.

اعتبر اليهود خسارة إسبانيا أكبر كارثة تحل بهم، منذ تدمير الهيكل المزعوم في فلسطين (70 ق.م). في الشتات، وجدوا أنفسهم دائماً في المكان الخاطئ، وبدا النفي شرطاً وجودياً، وألماً محايثاً لحياة خيّم عليها الارتياب في عدالة إلهية تسمح باضطهاد "الشعب المختار"، الذي احتاج، كما يذهب فرويد (موسى والتوحيد)، لأن يفهم: "كيف يمكن لفكرة التميّز التي خصه بها الإله أن تتفق مع التجارب المحزنة التي قضى بها عليه قدر ملموس. ولكنه لم يدع الارتياب يستولي عليه، وكان شعوره بالذنب يتعاظم لتخفيف الشك والارتياب في وجود الله".

في ظل الاقتلاع الروحي والجسدي ومشاعر الذنب، لم تقدم اليهودية التقليدية الشفاء، كان عليها تطوير أشكال جديدة للإيمان، تستجيب للتراجيديا المستجدة، وتعيد إلى اليهود ما فقدوه من معنى. طور متمسّحوهم آمالا ألفية، واعتقد السفرديم أن نفيهم، وإخوتهم الأشكيناز، هو آلام لولادة المسيّا (المسيح)، وانتقل بعضهم لانتظاره في الجليل.

في صفد أسس المتصوف الأشكينازي إسحق لوريا (1544-1572) قبّالة (في الأصل: التلقي والاستقبال) لم تعد معها عملية الخلق التوراتية عملية سِلْمية تدرّجية، بل عملية غير رحيمة، رافقها انفجارات وكوارث، عرّض فيها الأزلي نفسه للنفي منكمشاً داخل ذاته، كي يترك مجالاً خارجها لظهور العالم.

حاول الأزلي ملء الفراغ بالنور الإلهي، لكن الأنابيب الناقلة للنور انفجرت. بعض شرارات النور عادت إلى الربوبية، وسقط غيرها في اللجة حبيساً للعالم المادي. ولولا خطيئة آدم لساعد الإله وانتهى النفي في السبت الأول.

في هذه القبّالة الجديدة، يكون الخلاص بتصحيح الانحراف في عملية الخلْق، عبر التقيّد التام بالتوراة، والتزام شعائر خاصة طورها قبّاليو صفد، فتتحرر الشرارات الحبيسة المشتتة/الشعب اليهودي، وتعود إلى أصلها الإلهي/ الأرض المقدسة. هكذا تعود إلى الإله وحدته، ويُصحح انحراف مسار عملية الخلْق. أصبحت هذه الصوفية الحلولية النظام المثيولوجي الأكثر قبولاً بين اليهود.

في 1665م، أعلن شبتاي تسفي أنه تلقى الوصايا الإلهية الجديدة لتخليص العالم. استعد اليهود للعودة، ومارسوا طقوس التوبة الصفدية. وفي طريقه لمواجهة السلطان العثماني، قبض على شبتاي وخيّر بين الإسلام والموت. باختياره الإسلام عانى اليهود الإحباط والمرارة وباتوا أكثر عزلة. اعتقد شبتائيون أن عليهم أن يتبعوا مسيحهم المرتد داخل عالم الشر، ويعتنقوا الدين الرسمي في أماكن تواجدهم ( يهود الدنمة).

لم تكن قبّالة لوريا أيديولوجياً، ولا مخططاً لهجرة فعلية إلى فلسطين، إذ اشترطت الحالة الوجودية للمنفى سلبية سياسية. لكنها، في مستواها الرمزي، تقدّم عزاء روحياً، وتمنح التراجيديا معناها، حين يصبح النفي أكثر قوانين الوجود أساسية، وخطيئة آدم مقدسة. إنها جلب حقيقة أبدية إلى حياة المؤمن الدنيوية.

أدرك شبتائيون آخرون النتائج الكارثية التي تنجم عن تحويل رموز مثيولوجية إلى خطط عملية، وانضموا إلى حركة التنوير اليهودية (هاسكالاه) المتأثرة بالتنوير الأوروبي، والتي هدفت إلى تحرير اليهود من الغيتو العقلي، ليتمكنوا من أن يصبحوا أوروبيين صالحين مع بقائهم يهوداً.

الإصلاحيون المتأثرون برائد التنوير، موسى مندلسون (1729- 1786)، قدموا المواطنة على أسطورة المسيّا والعودة إلى صهيون، وحذفوا من صلواتهم ما يشير إليها.

مثّلت أسوار الغيتو برزخاً بين عالمي الخير والشر، ففي الخارج، هناك: الأغيار، خطر الحداثة على مجتمعات تقليدية، قلق الهوية، وشبح ذكريات مؤلمة.

الثورة الفرنسية، أو "الشريعة الثانية من جبل سيناء" كما بدت لمستنيريهم، كانت امتحاناً لقدرتهم الذاتية على الاندماج والتحلي بأخلاق مدنية. أخفق اليهود، ولم يكن ممكناً للدولة الحديثة، التسامح مع المخالفات الذاتية للغيتو، فسحبت امتيازاتهم نهائيا بعد هزيمة واترلو 1815، لكن احتياجات الدولة لاستثمار جميع مواردها البشرية تدخلت لإنقاذهم، وبحلول العام 1870 بدا أن انعتاق اليهود قد أُنجز.

تركزت المسألة اليهودية في أوروبا الشرقية، حيث خلّفت عمليات التطهير العرقي والدمج القسري يهوداً مُغرّبين عن الحداثة، متعلقين بالأحبار، وبالإصلاحية المحافظة (الهاسيدية) المعارضة للتنوير.

أعلن حاخام صربيا يهودا ألكالاي (1798- 1878) أن المسيّا لن يكون شخصاً، وليس لأحد أن "يقوم بهذه المهمة ولا حتى الله"، بل شعبه المختار. وضع خططاً عملية لإقامة مستوطنات في فلسطين، ينظّم بموجبها اليهود أنفسهم ويختارون قادتهم. المتشددون، تمسكوا بالخلاص عملية كونية تاريخية متعالية على البشر، وعدّوا أي تدخل بشري لعنة إلهية.

رغم رياح الحداثة التي دفعت بأسطوله في عرض المحيط، كان كولومبس، كغيره من رجال ذلك الزمن، لا يزال راسخ القدم في ميثيولوجيا العالم القديم، حيث الأرض رمزاً لكل مقدس.

كان كاثوليكياً تقيّا ملماً بالتراث الصوفي اليهودي، أراد الأرض باسم المسيح، وأن يقيم قاعدة عسكرية في الهند لتحرير القدس، واكتشاف طريق تجارية لا تمر بأرض "المحمديين". وعندما لاحت في الأفق إحدى جزر الباهامس، وانطلقت الصيحة المدويّة: "الأرض.. الأرض"، لم تنته مهمة مقدسة ضلّت الطريق إلى الهند، فباسم الرب، اجتُثّتت مجتمعات بأكملها واستحال العالم الجديد مستوطنات.

بدأت الحداثة عدوانية منذ عام 1492م، كان الدين يتقدم مع تقدم الجيوش، ومنحت العناصر المثيولوجية المعنى للاكتشافات العلمية والعقلية والجغرافية. كان اليهود، قبل غيرهم، ضحايا تحوّل الرموز المثيولوجية والدينية إلى خطة عمل.

حققت الصهيونية السياسية وجوداً دولياً أواخر القرن التاسع عشر. ورغم تأثرها بخطط الاستيطان العملية التي قدمتها الصهيوينة الدينية، كان روادها علمانيين، أدركوا الطاقة الكامنة في رمزية الأرض وصلاحيتها للاستثمار الأيديولوجي. حذفوا الإله، مع احتفاظهم بقدسية العلاقة بين الشعب والأرض.

وحين اقترح تيودور هيرتزل أوغنده لإقامة الدولة، كاد أن يخسر زعامته للحركة الصهيونية، فاضطر للوقوف أمام مندوبي المؤتمر الصهيوني الثاني مترنما بأحد المزامير: "إن نسيتك يا أورشليم، تنسنى يميني". كان يجب رؤية "الأرض" تلوّح في الأفق.

في سبيل إدخال الحداثة إلى الحياة اليهودية، وظّفت الصهيونية الرموز المقدسة، فأصبحت رمزاً لكل ما هو بربري وهمجي وعنصري ولا أخلاقي. ومع قيام "إسرائيل"، الغيتو الجديد، يسقط وهم الانعتاق اليهودي حين كان على حساب إنسانيتهم.

تاريخياً، حملت اليوتوبيا هموم الناس الخَلاصية، وحلّت الكارثة، حين سلّمت تلك اليوتوبيا ثوريتها على الواقع لأيديولوجيا تقف عند حدود تبريره، فاتحة الباب لكل ما هو غير إنساني، الخلاص بالدرجة الأولى هو إعادة بناء إنسانية الإنسان في عالم الدينونة، عالم الحق وقيم العدل والتسامح. لكن جذوات الأمل تخبو في عالم ما بعد حداثي انتشرت فيه أيديولوجيات الاختيار الإلهي لإنجاز مهمات مقدسة.


(كاتب فلسطيني/ دمشق)


المساهمون