فلسطين في الخليج: الغياب والتغييب

فلسطين في الخليج: الغياب والتغييب

02 مايو 2016
المنامة/البحرين، ضد العدوان على غزة، 2014 (تصوير: محمد الشيخ)
+ الخط -

مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، كان الحديث عن التخاذل العربي تجاه فلسطين لا يتوقف، على ما جرت العادة في تلك السنوات، وكان يقال شعبياً، من باب تقريع الذات، إن النظام العربي الرسمي عاجز، والجماهير لا حول لها ولا قدرة على تقديم ما هو أكثر من الشجب في الشوارع وعلى الشاشات، ورغم ذلك، فإن أي مقارنة بين ذلك الحدث واليوم، تشير إلى الفجوة في حجم التفاعل الشعبي تجاه القضية الفلسطينية وصورته.

في التفاعل الشعبي مع الانتفاضة، ومشهد اغتيال الطفل محمد الدرة، كان الغضب الشعبي العربي معبّراً عن أولوية هذه القضية، وعن رفضٍ صارخ للتطبيع مع العدو الذي تم ترويجه في عقد التسعينات من القرن المنصرم، وعن كل منطق "أوسلو" وخطابها وأدبياتها، وكان لهذا الضغط الشعبي تأثيره حتى على الأنظمة العربية ذات العلاقة مع إسرائيل، ما اضطرها لاتخاذ بعض الخطوات بتأثير هذا الضغط الشعبي.

في الخليج، لم تكن صورة التفاعل الشعبي مختلفة عن بقية الأقطار العربية، وكانت الصورة واضحة بخصوص القضية الفلسطينية، رغم كل ما أحدثه دخول القوات العراقية إلى الكويت، وتقسيم الأمة إثر هذا الحدث، والحملات الإعلامية والنقمة في بعض الأوساط الشعبية على الفلسطينيين في الخليج، بسبب موقف ياسر عرفات ومنظمة التحرير من حرب الخليج الثانية، فقد كان الغضب من أجل محمد الدرة أكبر من كل أحقاد عقد التسعينات.

خرجت مظاهرات في بعض مدن الخليج. حتى في السعودية، المحظور فيها التظاهر بشكل عام، خرجت في بعض مناطقها مظاهرات عفوية، أو بتنظيم بسيط، ترفع أعلام فلسطين وصور الشهيد الدرة، إضافة إلى انتشار فكرة مقاطعة البضائع الأميركية، تعبيراً عن رفض الموقف الأميركي المساند لإسرائيل، ونشر قائمة بتلك البضائع، لاقت رواجاً واسعاً، واضطرت شركاتٍ عديدة إما لنفي أميركيتها في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، أو للقول إنها شركات محلية تحمل الاسم الأميركي وحسب، بسبب تضررها من المقاطعة.

هذا التفاعل الشعبي قلَّ زخمه مع الوقت، والقضية الفلسطينية صارت مرتبطة أكثر بحربٍ شعواء على غزة، مثل حرب عام 2014، وحتى في هذه الحرب لم يكن التفاعل الشعبي كما كان سابقاً، لكنه ظهر بشكل أكبر على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي التي انتشر استخدامها.

وها هي "انتفاضة السكاكين" في الضفة الغربية لا تحوز اهتماماً شعبياً، ويظهر أن الأحداث المتلاحقة منذ الثورات العربية، وصولاً إلى الحروب الأهلية في أكثر من بلد عربي، تلقي بظلالها على مستوى الاهتمام بالحدث الفلسطيني، غير أن المسألة تتجاوز، على ما يبدو، ضغط الأحداث وأولوياتها، إلى عملية كيٍّ للوعي بخصوص القضية الفلسطينية.

تتراجع القضية الفلسطينية على سلّم أولويات الإعلام العربي، وهو المُشكِّل الرئيس لأولويات الرأي العام والمُوَجِّه لاهتماماته، وإذا كان بعض المجتمعات العربية قد أُنهِك بفعل معاركٍ ضد الاستبداد، ثم في حروبٍ أهلية وفوضى، فإن المجتمعات في الخليج، لم تعرف، في أغلبها، إنهاكاً بهذا الحجم، رغم الانتفاضة في البحرين، والاحتجاجات في الكويت، لكنها أُنهِكت بفعل تفاعلها مع قضايا العرب الأخرى، وبالذات ما يجري في الهلال الخصيب، وهو تفاعل وصل إلى حد ذهاب متطوعين للقتال في مناطق النزاع هناك.

الإنهاك من الثورات المضادة والصراعات الطائفية والقبلية، لا يفسر، وحده، تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية خليجياً، إذ يتم تغييب القضية الفلسطينية عمداً، بل وتُستخدم الأحداث الحالية لتجاوزها، وتحويلها قضيةً عادية تتراجع أهميتها لمصلحة قضايا أخرى أولى وأخطر، وهنا يلعب الإعلام في الخليج، وبعض النخب السياسية والثقافية، دوراً في تقليص أي تفاعل شعبي مع القضية الفلسطينية، وأحياناً في ترويج التطبيع في مجالات مختلفة.

ينقسم التقليل من أهمية القضية الفلسطينية، ومركزيتها عربياً، في الخليج إلى قسمين، أولهما يتمثل في ضرب التناقض مع إسرائيل لصالح التناقضات الداخلية في المجتمعات العربية، ويستشهد هؤلاء بقضايا محقة أحياناً في الداخل العربي، لكنهم يحولونها إلى منطلق لتعزيز الصراع الطائفي والأهلي، ويستخدمون حمام الدم وعدد القتلى وسيلةً لضرب أولوية القضية الفلسطينية.

كأنَّ هذه القضية منحصرة في عدد ضحايا الاحتلال الإسرائيلي، وليست في الاحتلال الاستيطاني نفسه، بما هو حالة استعمارية من نوع خاص، تقوم على تهجير أصحاب الأرض وتشريدهم، وإحلال آخرين مكانهم، وهو أساس المشكلة في قضية فلسطين، فيما الممارسات العداونية الصهيونية تكمل صورة الاحتلال الاستيطاني، وليست جوهر المشكلة معه.

هذه المشكلة هي استمرار لوعي زائف تم بناؤه إعلامياً وسياسياً في العقود الأخيرة، يتمثل باعتبار القضية الفلسطينية نزاعاً حدودياً، أو مشكلة عدوان إسرائيلي يحصل بين فترة وأخرى، مع نسيان أصل القضية المتمثل في الاستعمار الاستيطاني، ما يُنتِج تفاعلاً شعبياً وتعاطفاً يرتبط بالحدث وحده، في ظل ضعف التثقيف بأصل القضية الفلسطينية في المؤسسات التعليمية والإعلامية، وضعف التحشيد حولها بوصفها قضية مركزية، بل واعتبارها مشكلة الفلسطينيين لا العرب، وهذا يظهر في ضعف الوعي العام في الخليج بأساس القضية الفلسطينية.

القسم الثاني من تحجيم الاهتمام بالقضية الفلسطينية يكمن في النزوع نحو جعل الصراع الخليجي مع إيران أولوية على ما عداه، وتمرير بعض النخب، ووسائل الإعلام، أفكاراً من نوع المقارنة بين إيران وإسرائيل، التي تنتهي لمصلحة شدة الخطر الإيراني وراهنيته، لتكون مقدمة لترويج التطبيع مع الصهاينة، أو على الأقل تبرير العجز عن مواجهة إسرائيل بأي وسيلة، عبر القول إن هناك معركةً أهم وأخطر لا بد من خوضها، ما يعني أن القضية الفلسطينية تخضع، هنا، إما لتجاهل تامٍ وإهمالٍ، أو لمحاولة تصفية عن طريق تقديم نزاعاتٍ أخرى بوصفها أولى بالاهتمام.

تظل فلسطين حاضرة في الوجدان العربي الشعبي في منطقة الخليج، لكن هذا لا يعني أن أولوية قضية فلسطين لا تخضع لعملية تزييف وعيٍ، تُحرِّك هذا الوجدان في اتجاهات أخرى، وتُغيّب هذه القضية عن اهتمامه في هذه المرحلة، الأمر الذي يجعل مسؤولية النخب المنحازة لخطابٍ عربي يواصل التأكيد على مركزية قضية فلسطين، مع سعيه للتحديث والنهوض وتعزيز الحريات، كبيرة في مواجهة نزعات الانقسام والصراعات الداخلية، الرامية إلى تدمير أهمية القضية الفلسطينية، مع تدميرها المجتمعات العربية.

في هذا الإطار، تنشط مبادرات شبابية خليجية، ضد أشكال التطبيع في دول الخليج مع الكيان الصهيوني، أو الخطاب الذي يتساهل مع التطبيع ويروج له، ويحاول استثمار الصراعات الإقليمية في تبديد أولوية الصراع مع الصهاينة، وهي مبادرات تستحق الإشادة والدعم، إذ إنها تحافظ على إبقاء فلسطين حيّة في الوجدان الشعبي، في زمن الفتنة والانقسامات وسطوة الغرائزية.

المساهمون