زمن محمّد بوديّة

زمن محمّد بوديّة

01 سبتمبر 2015
مؤتمر صحافي لحركة "النمور السود" ومنظمة التحرير، الجزائر 1969
+ الخط -

وقف الزائر الأربعينيّ ذو الشارب الكثّ يتأمّل المكان في صمت. من المؤكّد أنه طالما رغب في زيارة بلد "المليون ونصف المليون شهيد" الذي ألهمته ثورته؛ لكن لم يدُر بخلده أبدًا أنه سيتّجه رأسًا من المطار إلى المقبرة. أخرج سيجارًا كوبيًّا من معطفه الأسود السميك. وكان قد همّ بإشعاله حين نطق مرافقُه الشاب، للمرّة الثانية، منذ أن استقبله في المطار: "هل قلتَ شيئًا يا سيّدي"؟

نفث الدخان الذي أحاط بوجهه كضباب لندني كثيف، وقال بما يشبه الابتسامة: "لم أره منذ خمس سنوات. كان ذلك بميونيخ.. وكان وعدًا عليَّ أن ألتقي به مجدّدًا".

أمام قبرين

لعلّ الشاب لمح دمعتين في عيني ذلك الكهل الغريب الأطوار، وقد وقف أمام القبر الذي كُتبت على أحد شاهديه العبارة التالية: "محمّد بوديّة، 1932- 1973". دنا منه وسأله إن كان بخير، فاكتفى هذا بإيماءة، ثمّ ربت بيده الغليظة على كتفه، قبل أن يعود بضع خطواتٍ إلى الوراء. ومن هناك، بات بإمكانه رؤيتهما معًا: قبر الابن وقبر الأمّ التي لحقت به بعد ثمانية أيّام من استشهاده.

استغرق متأمّلاً، كمن هطل عليه سيلٌ من الذكريات. أطبق الصمت للحظات شخصت خلالها عينا المرافق في الزائر الغريب الذي فاجأه بطلب لا يقلّ غرابة: "المسرح! أريد الذهاب إلى المسرح".

ولكن، هل ترغب في مشاهدة عرض مسرحيّ؟ اكتفى بطرح السؤال بينه وبين نفسه، وأكمل بصوت مسموع: "تقول التعليمات إنّك ستتّجه إلى مقرّ إقامتك لتأخذ قسطًا من الراحة". أجاب الزائر بنبرة هادئة، رغم الامتعاض الذي بدا على ملامحه: "سأفعل.. ولكن ليس قبل أن أذهب إلى المسرح".

في ذلك المساء الشتوي من عام 1977، ركنت سيّارةٌ سوداء أمام مبنى المسرح الوطني بساحة "بور سعيد" وسط الجزائر العاصمة. أنزل محمّد داود عودة زجاج السيّارة وألقى نظره على الساحة التي تعجُّ بالباعة والمارّة، وصولاً إلى المبنى العتيق؛ حيث كان رفيقه، الذي يرقد الآن في مقبرة "القطّار"، مديرًا له قبل سنوات.

في تلك اللحظة، شعر أبو داود، أحد مؤسّسي منظّمة "أيلول الأسود" والمشرف على عملية "ميونيخ" التي استهدفت اللاعبين الإسرائيليين في أولمبياد عام 1972، أنه أوفى بجزء من دين رفيقه الذي استضاف أفراد الكوماندوس الفلسطيني قبل تنفيذ العملية وأشرف على تهريبهم وإخفائهم. كانت زيارة قبره ثمّ مسرحه أوّل ما فعله بعد إطلاق سراحه في باريس بوساطة جزائرية. ومن المؤكّد أن مخيّلته رسمت مشاهدَ لرفيقه وهو يدخل إليه، أو يخرج منه.. وهو خلف المكتب مستغرقًا في عمله الإداري، أو على الخشبة متماهيًا مع أحد أدواره.

كان ما يجمع بين الرجلين أكثر من اسمهما المشترك. فمن هذا المسرح الذي خصّص مداخيل موسمه الصيفي دعمًا لكفاح الشعب الفلسطيني عام 1962، خرج أحد أكثر الرجال الذين التقى بهم في حياته إثارة، وقرّر أن يُناضل على الأرض ويموت في سبيل القضيّة التي اعتنقها.

تشي غيفارا الجزائري

في حيّ "باب الجديد" بالقصبة العتيقة في الجزائر العاصمة فتح محمّد بوديّة عينيه على جزائر يقترب عمر الاحتلال فيها من مائة عام. ولعه بالمسرح دفعه إلى الالتحاق بالمركز الجهوي للفنون الدرامية عام 1954، لكن الثورة التحريرية ستندلع في العام نفسه، وسيهاجر إلى فرنسا ليلتحق بـ"فيدرالية جبهة التحرير الوطني" التي نقلت العمليات الفدائية إلى داخل الأراضي الفرنسية. هناك سيشارك في عدّة عمليّات، أشهرها تفجير خطّ أنابيب النفط في مرسيليا عام 1958. يُلقى عليه القبض ويُحكم عليه بالسجن عشرين سنة، لكنه يفلح في الهروب أواخر صيف عام 1961.

الوجهة هذه المرّة هي تونس؛ حيث سينضمّ إلى فرقة "جبهة التحرير" المسرحية التي لعبت دورًا كبيرًا في التعريف بالقضيّة الجزائرية عبر العالم من خلال المسرح، ثمّ يعود إلى الجزائر بعد استقلالها، ويصبح أوّل مدير لمسرحها الوطني عام 1963 ويؤسّس عددًا من الصحف.

كان تأثّر بوديّة بالأفكار اليسارية واضحًا، من خلال رسائل التأييد التي كان يبعث بها إلى الحركات التحرّرية عبر العالم، معبّرًا عن دعمه لها ومشجّعًا إيّاها على مواصلة الكفاح، مستدلاًّ بنجاح الثورة التحريرية. في عام 1964، بمناسبة عيد الثورة الكوبية، جمعه لقاء مطوّل بالثائر تشي غيفارا، انتهى بحوار لصحيفته "الجزائر هذا المساء"، التي كانت أوّل صحيفة مسائية تصدر في الجزائر بعد الاستقلال.

في الشهر السادس من عام 1965، سيقود العقيد محمّد بوخرّوبة (الرئيس الراحل هوّاري بومدين) انقلابًا عسكريًّا ضدّ الرئيس أحمد بن بلّة، وسيجد محمّد بوديّة، المقرّب من الرئيس المعزول، نفسه ضمن تحالف ضمّ عناصر من "الحركة الشيوعية" ويسار "جبهة التحرير" تحت اسم "منظّمة المقاومة الشعبية" التي سعت إلى معارضة الانقلاب الذي يسمّيه أنصار بومدين "تصحيحًا ثوريًّا"، قبل أن يضطرّ إلى الهروب من الجزائر عبر الحدود التونسية نحو فرنسا مرّة أخرى؛ حيث سيواصل مقاومته العبثية للانقلاب الذي كان قد سيطر على الوضع وزجّ بمعارضيه في السجون. وأمام هذا الوضع سيعود بوديّة إلى الفن الرابع ويتولّى منصبًا في أحد المسارح الباريسية.

في باريس، تبدأ حكاية جديدة مع القضيّة الفلسطينية. عام 1967، يلتقي محمّد بوديّة مسؤول دائرة العمليات الخارجية في "الجبهة الشعبية" وديع حّداد، ويشكّل معه "خلية العمليّات الخارجية بأوروبا"، التي نفّذت عددًا من العمليات في القارّة العجوز.

يقول الباحث المتخصّص في تاريخ الثورة الجزائرية، محمّد عبّاس، إن "بودية تلقّى هزيمة يونيو 1967 كصدمة شخصية وكارثة قومية، لم يخفّف من وطأتها عليه سوى انتعاش الكفاح المسلح الفلسطيني في أعقابها. ولقاؤه بوديع حدّاد رفيق الدكتور جورج حبش في قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كان منعرجًا حاسمًا، حيث تطوع لخدمة القضيّة الفلسطينية مع بقايا المنظّمة التي أُنشئت لمقاومة الانقلاب".

ومن باريس إلى موسكو، التي يرحل إليها محمّد بوديّة لينتسب إلى جامعة "باتريس لومومبا". هناك يلتقي شابًّا فنزويليًّا جمعته به علاقة صداقة ولم يجد صعوبة في تجنيده لصالح القضية الفلسطينية. لم يكن ذلك الشاب سوى راميز سانشيز الشهير باسم "كارلوس"، الذي سيعبّر عن وفائه لرفيقه بطريقته الخاصّة، حين يسمّي عمليّتي مطار "أورلي" في باريس عام 1975 ضد طائرات إسرائيلية باسم"عملية الشهيد محمد بوديّة".

في فرنسا التي يعود إليها بوديّة مجدّدًا بمنصب "قائد العمليات الخاصة للجبهة الشعبية في أوروبا"، سينسّق "أبو ضياء" (اسمه الحركي) مع عدد من المنظّمات اليسارية الأوروبية وغير الأوروبية، وسيصبح العقل المدبّر لعمليات "الجبهة الشعبية" في أوروبا، وهو ما يجعله مطلوبًا من المخابرات الفرنسية والبريطانية والأميركية والإسرائيلية، رغم عدم وجود أدلّة ضدّه.

مشهد أخير

- عزيزتي إيفلين؛ هذا ما دفعني للقيام بكلّ ما قمتُ به.. أقصد الإيمان بعدالة هذه القضية.

ضمّت الفتاة الألمانية الشرقية الشقراء يديه وراحت تتأمّل ملامح هذا الوجه القادم من الجنوب. كان وجهًا تمتزج فيه صلابة الرجل الجزائري بطيف من الحنان. حدّقت في عينيه وضغطت على يديه: "أريد أن تثق فيَّ تماما. أنا مؤمنةٌ بالقضيّة تماما كإيماني بك". صمتت لبرهة ثمّ أضافت بنبرة من القلق: "لكنني خائفة عليك".

ابتسم محمّد تلك الابتسامة التي تنمُّ عن الاستغراب، وربمّا عن السخرية من الأقدار التي تخبّئ في جعبتها الكثير من المفاجآت والمفارقات: "أنتِ من سيذهب إلى القدس، وأنا من يخافُ عليك. لكنني واثق بك تمام الثقة".

- يوم السبت المقبل سنكون في القدس خمستنا؛ أنا والسيّد والسيّدة كلارك والأختان ناديا ومارلين برادلي. كل شيء مهيّأٌ ومضبوط بدقّة. لا مجال للخطأ.

طبعت الآنسة إيفلين بارج قبلة على خدّه قبل أن تنسلَّ خارجة من حانة يحضنها شارعٌ باريسي مُغرق في الهدوء والصمت، يلتقيان فيه كل مساء، حيث لا يكون هو مدير المسرح، ولا هي مسؤولة صندوق المسرح.

استرجع تفاصيل موعده الأخيرة مع إيفلين وهو متمدّد على فراشه. كادت عيناه تفيضان دمعًا: باءت مهمّتها بالفشل فحسب وأيقن أنه لن يراها مجدّدًا.

في تلك الأثناء كان صوتُ مذيعة التلفزيون الفرنسي يحمل خبرًا غير سعيد: "تمّ ضبْط جماعة من المخرّبين في إسرائيل.. عندما وصلوا إلى المطار في الغد لم يوجد في حقائبهم أيُّ شيء يثير الشبهة، فقد وُجدت ملابس وأحذية وأدوات استحمام وقطن.

لكن المحقّقين اكتشفوا أن الملابس والقطن تغلغلت فيهما مادة متفجّرة سائلة. جلب زوج الشيوخ معهما مفجّرات في مستقبِل راديو، وكان وصلها بالمادة المتفجّرة سيُنتج عددًا من القنابل. لقد كانوا ينوون وضعها في فنادق تل أبيب. في التحقيق معهم قاد المعتقلون المحقّقين إلى جزائري يُدعى محمّد بودية".

كرجل مسرح؛ كان ينجح في تبديل هويّاته وملابسه وعناوينه بسرعة فائقة، لجعل ترصّده صعبًا. كان متيقّنًا أنه سيكون الهدف المقبل للموساد بعد أن أطلقت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير حملة الاغتيالات السياسية قبل عام، أي منذ حادثة ميونيخ الشهيرة. لكن محمّد لم يضع بالحسبان أن آلافا من المخبرين الذين يتشكّلون من رجال الموساد المدعّمين بطلاّب الجامعات الإسرائيليين يترصّدون خطواته.

في ممر للمشاة تحت ميدان "أتوئيل" لُمح للمرّة الأولى، وعرفوا أنه يمرُّ من هناك كلّ صباح. لكن أحدًا لم يعرف أيّا من الأنفاق الاثني عشر سيسلك. ولم تكن كثيرٌ من الأيام قد مرّت حين فُجّرت سيارته صباح يوم الثامن والعشرين من حزيران/ يونيو عام 1973، أمام المركز الجامعي بشارع "فوس برنار" في باريس.

ورغم أنه كان معارضًا لنظام الرئيس الراحل هوّاري بومدين، فإن الأخير استعاد جثمانه ودفنه في مقبرة "القطّار" بالعاصمة.. احترامًا لنضاله من أجل قضيّة فلسطين التي كان بومدين يؤكّد أن الجزائر معها ظالمًة أو مظلومًة.


(كاتب جزائري)