من حركات التحرر إلى حملات المقاطعة

من حركات التحرر إلى حملات المقاطعة

01 سبتمبر 2015
مظاهرة تضامنية مع فلسطين في دبلن/ إيرلندا (31-12-2014)
+ الخط -

لطالما بدت العلاقة بين القضية الفلسطينية وحركات التحرر العربية والعالمية كعلاقة اندماج تام، حتى صارت فلسطين تشكّل حجر الأساس في الخطاب الثوري العالمي، ولم يكن ممكناً تصوّر وجود حركة تحرر وطني لا تضع القضية الفلسطينية في صلب خطابها وعلى رأس أولوياتها الخارجية.

في مرحلة تاريخية ملتهبة تخللتها حربان عالميتان وحيث كان التنافس بين الدول الغربية ضارياً من أجل حصد الغنائم والاستيلاء على مزيد من المستعمرات، برزت حركات التحرر الوطني في محاولة لكبح جشع الغرب في التوسع الاستعماري ونهب الموارد وفتح أسواق جديدة.

وانقسمت حركات التحرر إلى تلك التي ناضلت من أجل تحرير بلدانها من الاستعمار (الهند، فيتنام، الصين، الجزائر، أنغولا..الخ) وأخرى وجدت في دول غير مستعمرة، أو كانت بالكاد قد نجحت في تحرير بلدانها لتواصل المعركة من أجل إنهاء التبعية السياسية والاقتصادية للدول الرأسمالية (الصين، كوبا، مصر، نيكاراجوا، غواتيمالا..الخ).

هكذا، وبصورة عامة، برزت حركات التحرر الوطني ككيانات منظمة تناضل من أجل حق تقرير المصير لشعوبها، فاستمدت شرعيتها من تأييد الجماهير لها، لكن أيضاً مما حظيت به من شرعية قانونية لمختلف أشكال نضالها بما فيها العمل المسلح وذلك بموجب المقررات الدولية التي تأتي في مقدمتها اتفاقية جنيف 1949 والبروتوكول الإضافي 1977 الذي أعطى الشرعية الكاملة بصورة واضحة لـ "المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير".

كان اللقاء حتمياً بين حركة التحرر الفلسطينية وحركات التحرر الوطنية، فكما نشأ التحالف التاريخي بين الحركة الصهيونية والدول الاستعمارية الرئيسية، نشأ تحالف تاريخي مضاد بين حركة التحرر الوطني في فلسطين والحركة الثورية العالمية.

كانت فلسطين تتميز بوضعية خاصة، إذ ابتليت ككثير من دول العالم في مراحل الضراوة الاستعمارية الغربية بالاستعمار البريطاني، لكنه تطوَّر لاحقاً إلى استعمار استيطاني أدى إلى إنشاء الدولة الصهيونية كأداة في خدمة السيطرة الرأسمالية البريطانية، ومن ثم الأميركية، على العالم العربي.

كان احتلال فلسطين وتأسيس الدولة الصهيونية أحد العوامل التي ساعدت في نشوء حركات تحرر في مختلف الدول العربية اتخذت طابعاً يسارياً تراوح بين الماركسية والقومية، وباتت حركات كثيرة تطرح القضية القومية العربية باعتبارها قضية تحرر تهدف إلى تحقيق الوحدة القومية في سياق السعي لنهضة شاملة.

وكان الدور الوظيفي الذي يمارسه الكيان الصهيوني في منع تحقيق الوحدة العربية فضلاً عن تسببه بتهجير الفلسطينيين، يشكل دافعاً إضافيا لتصبح فلسطين هي القضية المركزية في خطاب حركات التحرر العربية، وتنتقل منها لتصبح الخطاب المركزي أيضاً للحركات الثورية العالمية.

حافظت الحركة الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، على علاقات وطيدة مع حركات التحرر العربية والعالمية، بل وتأثرت بها بصورة كبيرة خلال نشأتها.

وكان ذلك واضحاً، على سبيل المثال، في النظام الداخلي لحركة فتح الذي أعلن بوضوح أن "نضال الشعب الفلسطيني جزء من النضال المشترك لشعوب العالم ضد الصهيونية والاستعمار والإمبريالية العالمية".

تأثرت حركة فتح بحرب التحرير الجزائرية التي اندلعت قبل نشأة الحركة بعدة سنوات، وهو ما عبر عنه صلاح خلف "أبو إياد" في مذكراته بالقول بأنهم كانوا "مأخوذين بمسيرة الوطنيين الجزائريين الذين استطاعوا أن يشكلوا جبهة صلبة ويخوضوا المعركة ضد جيش قوي يفوق جيشهم ألف مرة وأن يحصلوا على معونة متعددة الأشكال من مختلف البلدان العربية".

وقد تطورت العلاقات بين فتح والجزائر وصولاً إلى موافقة الجزائر عام 1966 على تدريب الفدائيين الفلسطينيين عسكرياً. كما يفصح أبو إياد عن تأثر حركة فتح بكل التجارب الثورية التي سبقتها، وخصوصاً في الاتحاد السوفييتي والصين.

الأخيرة على وجه خاص ربطتها بمنظمة التحرير الفلسطينية علاقات مميزة، وقد زارها ياسر عرفات مرتين في الأعوام الأولى لنشأة حركة فتح قبل أن توافق الصين في العام 1968 على استقبال مجموعات من الفدائيين الفلسطينيين لتلقي التدريب العسكري على أراضيها.

كما جمعت منظمة التحرير علاقات وطيدة مع فيتنام الشمالية التي ألهمت الكفاح الوطني الفلسطيني بعد نضالها ضد الاحتلال الفرنسي ومن ثم الأميركي، وقد استفادت قيادة منظمة التحرير من أساليب الإعداد والتدريب العسكري في فيتنام. كما ربطت منظمة التحرير علاقات وطيدة مع كوبا، فضلاً عن حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا.

كان لحركات التحرر دور حاسم في توسيع قاعدة التضامن عبر العالم مع الشعب الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، في حين كانت مواقف دول أمريكا اللاتينية داعمة للكيان الصهيوني خلال عقدي الأربعينيات والخمسينيات حيث أيدت قرار تقسيم فلسطين عام 1947 داعمة لـ"حق" اليهود في إقامة دولتهم على أرض فلسطين.

كان لصعود حركات التحرر في أميركا اللاتينية دور كبير في عكس المزاج العام ليصبح منحازاً للقضية الفلسطينية. ففي زيارة لأرنستو تشي غيفارا إلى القاهرة في العام 1965 كان الثائر الأممي الشهير واضحاً في قوله بأن "إسرائيل صنيعة إمبريالية"، وهي القاعدة النظرية التي انطلقت منها مختلف حركات التحرر في تأييدها للقضية الفلسطينية ورفض المشروع الصهيوني. كما قطعت كوبا في العام 1973 علاقاتها مع إسرائيل لتؤسس لتاريخ من المناصرة لفلسطين والعداء لإسرائيل عاد لينتعش مجدداً مع صعود اليسار إلى السلطة في دول أمريكا اللاتينية (فنزويلا، الإكوادور، بوليفيا).

كان المناخ الدولي في ذلك الحين مواتياً لانتشار حركات التحرر، حيث شكل كل من الاتحاد السوفييتي والصين الشيوعيتين محفزاً لنشاط تلك الحركات على صعيد عالمي. لكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات، وتراجع الأجندة السياسية للصين الشيوعية مع تحولها بصورة متزايدة نحو اقتصاد السوق وما استتبعه ذلك من تبدلات داخل الدولة والحزب الحاكم، خفت وهج حركات التحرر، وبدأ ميراثها ينتقل إلى حركات جديدة.

انتقلت ورثة التضامن مع القضية الفلسطينية التي كانت تمارسها حركات التحرر الوطنية العربية والعالمية إلى المجتمع المدني بمنظماته ومراكزه وشخصياته. وفي حين مارست منظمات المجتمع المدني المهمة بإتقان وحيوية كبيرة ونجحت في توسيع نطاق التضامن ودخوله لعمق البلدان الرأسمالية المركزية التي خلقت سياساتها الاستعمارية المشكلة الفلسطينية.

لكن تغيراً واضحاً طرأ على أشكال التضامن مع القضية الفلسطينية ونوعية هذا التضامن، على سبيل المثال، فيما ساندت حركات التحرر العمل المسلح بصورة واضحة، ابتعد التضامن الجديد عن ساحة الفعل، ليقترب أكثر من التأييد الأخلاقي المسنود بمقررات القانون الدولي وبما يجعل نشاطه شبه مقتصر على فضح ممارسات الاحتلال.

لم ينهض التضامن الجديد مع القضية الفلسطينية على ذات الأرضية النظرية لحركات التحرر، فلم تعد إسرائيل -في جزء كبير من هذا الخطاب- "صنيعة امبريالية" بل باتت احتلالاً يمنع إقامة دولة فلسطينية مجاورة. كان ذلك خلال العقد الأول لانحسار حركات التحرر الوطني وبروز منظمات المجتمع المدني.

غير أن التطور المستمر لحركات التضامن مع فلسطين خلال العقد الماضي جعلها تنتقل من حدود المساندة والتضامن "غير الجذري" إلى وضعية أكثر جذرية تكون فيها فاعلة ونشطة وذلك بإطلاق حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS) وتنظيم زيارات إلى فلسطين لمقاومة الزحف الاستيطاني، فضلاً عن مبادرات فك الحصار عن قطاع غزة وأنشطة كثيرة أخرى.

على أن الوريث المنتظر لحركات التحرر التقليدية في التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يشهد مخاضاً عسيراً من أجل الولادة.

وفي حين أعادت الثورات والانتفاضات العربية -التي اندلعت قبل أربعة أعوام- الأمل بولادة حركات تحرر شعبية عربية جديدة تحمل ممكنات تجاوز الحركات التاريخية التي فشلت أو تلاشت مع سيطرة قطب أوحد على العالم؛ إلا أن الواقع الحالي لبلدان "الربيع العربي" بات يحاصر الآمال الكبيرة ويشدد الخناق عليها، بل ما نخشاه أنه قد يكون نجح في قتل التحرر الجذري الذي كان كامناً لحظة اندلاع الاحتجاجات الشعبية.


(باحث فلسطيني سوري/ كندا)

المساهمون