نهاية مشروع مؤقت

نهاية مشروع مؤقت

18 مايو 2015
"موسم الزيتون"، رنا بشارة، 2011
+ الخط -

لم يكن لإسرائيل أي وجود مادي أو قانوني أو تاريخي حتى سنة 1947. لكن، في تلك السنة بالتحديد، قام اليهود المهاجرون ممّن لا يحملون جنسية البلاد بحمل السلاح، واستولوا على مساحات كبيرة من فلسطين، وأعلنوا في 14 مايو/ أيار 1948 قيام "دولة اسرائيل" بدعم مكشوف من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والأمم المتحدة التي أمدتهم بقرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29 نوفمبر/ تشرين الأول 1948، ولم يلبثوا أن استولوا على أراضٍ جديدة وطردوا منها أهلها العرب الذين بلغ عددهم 850 ألفاً على الأقل.

هكذا نشأت قضية فلسطين. إنها نتيجة مباشرة للصراع الدموي بين السكان الأصليين لفلسطين والحركة الصهيونية التي تظل، في نهاية المطاف، حركة كولونيالية احتلالية تمارس الاستيلاء على الأرض كعملية من عمليات "بناء الأمة الاسرائيلية ودولتها القومية".

في مواجهة السكان الأصليين، يستعمل الاستعمار الكولونيالي استراتيجيات الإبادة أو الترحيل. والإبادة لم تكن ممكنة على الاطلاق في سنة 1948، فاقتصر الأمر على الترحيل الذي لم يتمكن، بدوره، من القضاء على وجود الفلسطينيين الذين ما إن أعادوا تنظيم شتاتهم في بلدان اللجوء العربية المحيطة بفلسطين حتى بادروا إلى الكفاح المسلح لاستعادة بلادهم.

وعلاوة على ذلك، فقد كان التشبث بالأرض والبقاء في المكان وحلم العودة، المعجزة الفلسطينية الحقيقية التي جسدت التذكير اليومي للجميع بأن الشعب الفلسطيني لم يُهزم، بل إنه ما برح منذ سبعة وستين عاماً يصنع القلق التاريخي، بل الخطر الحقيقي على دولة اسرائيل؛ فالفلسطينيون كالعشب جُزَّ نبت مجدداً.

* * *

فَشِل "الترانسفير الاسرائيلي" في إفناء الشعب الفلسطيني أو محو إرادته أو ردعه لأن الفلسطينيين، بكل بساطة، لم يرتدعوا، بل قاتلوا إسرائيل في البداية من البر، أي عبر الحدود العربية، ثم خرجوا عليها من البحر، وهبطوا إليها من الجو، ثم اكتشفوا القتال عبر الأنفاق تحت الأرض، وهم يبتدعون في كل يوم وسائل.

من غير الواضح تماماً هل تعلّم الاسرائيليون الأمثولة جيداً، أي أن الفلسطينيين مثل كيس الملاكمة، كلما وجّه الاسرائيليون اللكمات إليه، ارتد عليهم بالقوة نفسها. وعلى الرغم من ذلك، وصلت الأحوال بعد سبعة وستين عاماً على النكبة، وبعد خمسين عاماً من الكفاح المسلح إلى عجزين: عجز الاسرائيليين عن إطفاء جمرة العودة والتحرير لدى الفلسطينيين، وعجز الفلسطينيين أنفسهم عن تحرير وطنهم والعودة إليه.

وهذا العجز المزدوج ولّد، في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إمكانية للتسوية بين الطرفين، فجاء اتفاق أوسلو في 13أيلول / سبتمبر 1993 كمحاولة عملية للاتفاق على تسوية ما. لكن، حتى هذا الاتفاق فشل تماماً، لأن إسرائيل لا يهمها السلام في حد ذاته، بل ما يهمها حقاً هو أن تبقى دولة يهودية وقوية معاً.

قضية فلسطين عالقة اليوم في استعصاء متعدد الحلقات، وإسرائيل نفسها في مشكلة مستعصية، فهي غير قادرة على ضم الأراضي المحتلة في سنة 1967 بسكانها، وغير قادرة على الانسحاب منها كلها. وما تعرضه من حلول يرفضه الفلسطينيون، وما يريده الفلسطينيون لا يمكن أن تقبل به إسرائيل. وهذا الاستعصاء يرنُّ في الذاكرة الجمعية الإسرائيلية في صورة كارثة، فالكوارث شكلت، كما هو معروف، جزءاً من هوية اليهودي: كارثة الخروج من مصر، وكارثة التيه في سيناء، وكارثة تدمير المملكة القديمة، وكارثة الشتات، والكارثة النازية. وكثير من يهود إسرائيل يعيش اليوم كارثة الخراب المقبل؛ فبعضهم يعتقد أن إسرائيل لن تبقى موجودة في المستقبل. ويتساءل كثيرون هل إن إسرائيل مشروع موقت غير قابل للحياة مثل الاتحاد السوفياتي أو الجزائر الفرنسية أو يوغوسلافيا؟

* * *

يطالب الإسرائيليون الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي. وهذا يعني أن إسرائيل تريد أن يوقِّع الفلسطينيون وثيقة استسلامهم بأيديهم، بل اعتناق الصهيونية. لكن هذه المطالبة تعني، في الجوهر، إقراراً صريحاً بأن مصير إسرائيل مرهون بإرادة الضحية، وأن الجبروت الإسرائيلي طوال سبعة وستين عاماً ما عاد نافعاً، وأن مستقبل اليهود في فلسطين لا يمكن ضمانه إذا لم تُحل قضية فلسطين حلاً يرضي الفلسطينيين أنفسهم. وعلى صورة هذا الحل الغائب وتفصيلاته ومضمونه يستمر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في الاشتعال.
وفي النهاية، لا تبقى إلا حجارة الوادي. أما الحجارة فهي الفلسطينيون، وأما الوادي فهو فلسطين.


(كاتب وباحث فلسطيني/ بيروت)

دلالات

المساهمون