الألعاب الإلكترونية والوالدان.. أيهما يربح؟!

الألعاب الإلكترونية والوالدان.. أيهما يربح؟!

26 يوليو 2015
اجعل علاقتك بابنك ممتعة وإلا فلتتركه للألعاب الإلكترونية (Getty)
+ الخط -

احتدمت المنافسة في السنوات الأخيرة بين "الألعاب الإلكترونية" من جهة، وبين "الأب والأم" من ناحية أخرى، فكل منهما يحاول أن يؤثر في شخصية الطفل وتربيته ويجذبه لصفه. ويبدو أن الفائز حتى الآن في هذه المنافسة هو: الألعاب الإلكترونية!!

والسؤال هو: لماذا فازت الألعاب الإلكترونية في المعركة؟ وما خطورة ذلك الفوز؟ وهل هناك سبيل لضبط المعادلة أو تغيير النتيجة؟ هذا هو ما نحاول أن نناقشه من خلال هذا التحقيق.

السؤال الأول
ونبدأ بالسؤال الأول: هل هذه حقًا منافسة بين طرفين؟ والإجابة ـ فيما نعتقد ـ هي "نعم". الطرف الأول في هذه المنافسة هو الشركات الرأسمالية العابرة القارات التي تبدع أشكالا جديدة من الأجهزة الإلكترونية بداية من الكمبيوتر ومرورا بالـ PlayStation , Xbox, Wii و I pod ، IPhone, ، إلى ما لانهاية من الأجهزة التي لن تتوقف عن غمر الأسواق، إلى جانب الأقراص الممغنطة وكل أنواع البرامج والألعاب على المواقع الإلكترونية العالمية.


وهذه الشركات ليست متآمرة مؤامرة كونية ضد العرب، ولكنها ـ ببساطة ـ تريد أن ترفع مبيعاتها ومكاسبها، وأن تحول الإنسان في كل بقعة من الكون إلى مخلوق استهلاكي مترهل، يشتري النسخة الجديدة من كل سلعة، ثم بعد شهور يشتري النسخة الأحدث، في نهم لا نهاية له ولا حدود. وهذه الشركات تستخدم ترسانة من المبدعين وفناني الغرافيك وصانعي الأفكار، كما تستخدم جيوشا من متخصصي المبيعات وعباقرة التسويق ومراكز البحث لكي تقدم منتجًا جذابا للطفل والمراهق والشاب أيضا، فيُسلم له عمره وطاقته ونفسه، وأموال أهله.

على الجانب الآخر من المنافسة يقف الأب المُمل والأم "النكدية"، بوسائلهما العقيمة في التربية ووعظهم المباشر، وحواراتهم الساذجة، يقفان محملين بالأعباء المادية والاجتماعية التي أثقلت ظهريهما، لا يملكان صبرا جميلًا أو مهاراتٍ تربوية ملائمة لمتغيرات العصر الحديث.
والنتيجة هي ـ كما ذكرنا ـ فوز هذه الشركات بألعابها الإلكترونية المغرية المسلية المبهرة، فوزا ساحقا على الأب والأم القليلي المهارات الكثيري الأعباء!!

السؤال الثاني
وهنا يأتي السؤال الثاني: ما خطورة ذلك؟ والإجابة نجدها في عشرات الأبحاث التي ظهرت عبر السنوات العشرين الأخيرة ـ والتي انتشرت فيها الألعاب الإلكترونية تدريجيا، حتى استفحلت في السنوات الأخيرة بذلك الشكل السرطاني، ولم تحتل البيوت فقط، بل احتلت الحياة كلها، حيث إنها في أيدي الأطفال والمراهقين والشباب، على هواتفهم المحمولة التي تصاحبهم ربما في دورات المياه!!

تكمن خطورة هذه الألعاب في جوانب عديدة، فهي السبب ـ ربما الأول ـ في التأثير سلبيا على الذكاء الاجتماعي للأطفال، وقدرتهم على العمل في فريق، والتعامل مع بشر حقيقيين، وتجربة النجاح الحقيقي أو حتى الفشل الحقيقي في إطار الألعاب الجماعية للأطفال. بالإضافة إلى هذا، فإن هذه الألعاب هي أهم أسباب انتشار السلوك العدواني بين الأطفال، لما تحتويه من قتل وسطو واعتداءات، بالإضافة أيضا إلى التأثير الأخلاقي السلبي لهذه الألعاب العنيفة، حيث إن الطفل في الكثير منها يقوم بدور "اللص البطل" الذي يقوم بعمليات السطو المسلح ويقتل الأبرياء في الشوارع.


الضرر الأكبر
ويأتي الضرر الأكبر من ألعاب الكمبيوتر وهو: "الإدمان"، حيث تصبح هذه الألعاب جزءا من حياته مما يؤثر سلبيا على واجباته الأخرى (المذاكرة ـ الواجبات الأسرية ـ العلاقات الأسرية ـ العبادات)، ثم يمتد هذا الإدمان ليأخذ أشكالا أكثر تعقيدا في المستقبل ليؤثر على الحياة الزوجية والعلاقات الاجتماعية عموما.
بالإضافة إلى الجانب الآخر من هذا الإدمان، وهو الاعتياد على النمط السريع في ألعاب الكمبيوتر، مما يجعل الطفل، ثم الشاب مستقبلا، ينفر من الحياة اليومية التقليدية التي تبدو "باهتةً" بالنسبة للحياة الإلكترونية. ومما يزيد من هذا الشعور بالنفور والتقوقع والانعزال والهروب من هذه الحياة الباهتة إلى حياة أخرى أكثر حيوية؛ أن الطفل في هذه الحياة الافتراضية المبهرة يكون هو البطل الذي يهزم الوحوش ويقهر الجيوش!

هذا بالتأكيد إلى جانب أن هذه الألعاب تؤدي لأمراض السمنة ـ بسبب الترهل والكسل، ويؤدي الإكثار منها إلى تأخر المستوى الدراسي، ولكن الأهم من ذلك هو: أن كل "ساعة" تُهدر أمام هذه الألعاب الإلكترونية، تعني أن الطفل قد ضيّع "ساعة" كان ينبغي أن تنصرف إلى تنمية موهبته، أو زيادة ثقافته ومعارفه، أو تنمية مهاراته الاجتماعية وعلاقاته الإنسانية!

وهنا يأتي السؤال الأهم: إذا كانت المنافسة ـ كما صورناها في البداية هي منافسة غير متكافئة، فهل هناك أمل في الفوز؟ والإجابة أيضا ـ فيما نؤمن ـ أن الفوز ممكن، وسنتحدث عن بعض الخطوات إليه، ولكن قبل ذلك دعونا نتفق على أربعة نقاط:

أمل الفوز 
النقطة الأولى: أنه يجب أن تكون هناك "خطة"، فإذا كان الطرف الذي يصنع هذا النمط الاستهلاكي لديه "خطة" لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح، ويجند في سبيل هذه الخطة، كل موارده البشرية من مبدعين ومسوقين، ألا ينبغي أن تكون لدينا أيضا ـ نحن التربويين ـ "خطة"؟ لا بأس أن تكون خطة بسيطة، ولكن غير مقبول أن نظل في مقاعد المتفرجين نكتفي بأن نصب لعناتنا واعتراضنا، ولا تكون لدينا أية "خطة"!


النقطة الثانية: رغم أن "الخطة" يجب أن يشارك فيها المجتمع الأهلي والدولة والمدارس، فإن تخاذل هذه الجهات لا يعفي الأب والأم من المسؤولية، فيظلان "هذان في الدنيا هما الرحماءُ" ـ كما يقول أمير الشعراء شوقي عن الأب والأم، وتظل تربيتهما لأبنائهما أمانة في أعناقهما مهما تخاذل الجميع، ومهما احتدمت المنافسة.

النقطة الثالثة:رغم أننا اعترفنا أكثر من مرة أن المنافسة غير متكافئة، فإن هناك حقيقة يجب أن يدركها كل أب وكل أم، وهي أن احتياج ابنه إليه أكبر من أي شيء، وأن الورد الطبيعي أجمل ألف مرة من الورد الصناعي، وأن الابن يحتاج لهذا الورد الطبيعي ويستطيع تمييزه عن ذلك الوهمي. فهو يحتاج حُضنًا صادقًا، وحُبًا دافئًا، ونظرةً عطوفة، وكلمةً ثناء تجدد الأمل بداخله، وتشجيعًا ممتلئًا بالثقة في قدراته ــ يحتاج هذا كله ألف مرة أكثر من احتياجه للألعاب الإلكترونية. وهذه "الميزة التنافسية" لديك ـ عزيزي الأب وعزيزتي الأم ـ لا ينافسك فيها أحد، ولكنك تحتاج فقط أن تتعلم المهارات التي تساعدك على التعبير عنها، لتصل إلى ابنك أو بنتك.

النقطة الرابعة: ليس الهدف هو المنع التام لهذه الألعاب، بل إن الكثير من الأبحاث حذرت من المنع التام الذي يؤدي لمقاومة أشد وحرمانً مضر وانعزال تام عن اهتمامات الأقران، بل إن بعض الأبحاث أشارت إلى بعض التطبيقات التعليمية المفيدة للألعاب الإلكترونية. فالمطلوب إذن ليس المنع، وإنما التوازن والاعتدال والابتعاد عن الإدمان.

حلول مجتمعية
والآن نشير إلى الحلول، ونبدأ بالحلول على مستوى الدولة والمجتمع الأهلي والمدارس:

بعض الدول ـ مثل تركيا ـ بدأت مشروعًا تشرف عليه وزارة التعليم الوطني يهدف إلى تعليم الأطفال في المدارس ألعاب الأزقة والشوارع القديمة، ليقدم بديلا عن الألعاب الالكترونية، بشكل ممتع، ينمي الذكاء الاجتماعي، ومهارات العمل في فريق ويدمج الطفل بشكل طبيعي مع أقرانه، ليتنفس هواءً طبيعيا و يعيش عالمًا حقيقيا وليس افتراضيًا.

 بينما نجد العديد من دول الخليج قد اتجهت إلى إحياء التراث الشعبي القديم والعادات الموروثة، ودمج الأطفال في مثل هذا النوع من الأنشطة كبديل عن الوقوع تحت السطوة التامة للألعاب الإلكترونية، ومن أمثلة تلك العادات: ليلة "فرنقعوه" في قطر، أو "القرنقشوه" كما يسمونها في عمان، أو "قرقيعان" في الأحساء والكويت، وقرقاعون في البحرين. حيث يقوم الأطفال في منتصف شهر رمضان بالتطواف في بعض الأماكن بالمدينة، مرتدين زياً تراثيا، يرددون الأناشيد اللطيفة، ويقوم الناس بتوزيع الحلوى عليهم ، في جو اجتماعي صحي مبهج.

والمثير للتفاؤل هو أن هذه الاحتفالات الشعبية ـ التي يُدمج فيها الأطفال ـ كانت تتم على نطاق ضيق، أما الآن فهي في طريقها للمزيد من التوسع من خلال المؤسسات الأهلية والمبادرات الاجتماعية.

ونجد في مصر انتباهًا واضحا من بعض الجمعيات الأهلية نحو أنشطة الأطفال، مثل جمعية "ألوان وأوتار" وجمعية "قلب كبير"، وغيرهما حيث التفتت تلك الجمعيات إلى أن العمل الخيري والأهلي يجب ألا يكون قاصرًا على الكساء والإطعام، وأنه يجب أن تكون له "خطة" لتقديم نوع جديد من الأنشطة الاجتماعية للأطفال، من خلال الألعاب الجماعية والحركية، ومن خلال التركيز على الذكاءات المتعددة، وتنمية المواهب، ونشر هذه الأنشطة في كل مكان، وتدريب المربيين على ممارستها مع الأطفال بشكل ممتع ومنمي للشخصية في نفس الوقت، لتمنح هؤلاء الأطفال الفرصة لممارسة حياة طبيعية وبناء علاقات حقيقية بل وصناعة اهتمامات وأهداف في الحياة.

بينما نجد مبادرة "أضف" ـ تلك المنصة العربية ذات النشأة اللبنانية العراقية المصرية الفلسطينية – تشتبك مباشرةً مع العالم الإلكتروني، ليس لمحاربته، ولكن من أجل الاستفادة منه، وتوجيه الأطفال لاستخدام التكنولوجيا الرقمية من أجل تنميتهم الذاتية وتنمية مجتمعاتهم.

هذه المبادرات مجرد أمثلة من بلدان مختلفة، بعضها ناشئ من المجتمع الأهلي والبعض الآخر من الدولة، لكلٍ منها رؤية ووسائل مختلفة، ولكن المشترك بينهم هو أن الجميع لديه "خطة"، وأن هذه الخطة تهدف إلى خلق حياة طبيعية ليعيشها الأطفال فتحررهم من أسر الألعاب الإلكترونية. والمشترك أيضا أن هذه "الخطة" تحقق للأطفال متعة حقيقية وليس فقط تنمي مهاراتهم ووعيهم.

ولا يبقى سوى أن تنمو هذه الخطة وتتسع لتصل إلى كل مدرسة، وكل بيت، وكل شارع وكل طفل عربي. وهذا يحتاج مجتمعا مسؤولًا، ومؤسسات أمينة على شعوبها، وابداعًا أكبر، وهمة أعلى.

المساهمون