مسؤولية المؤرخ

مسؤولية المؤرخ

28 يونيو 2016
لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونيه (Getty)
+ الخط -
لعل من أهم المآخذ التي تجاهر بها الباحثة والمؤرخة اللبنانية أمل غزال هنا، أن تاريخ العرب الحديث ما تزال تنقصه سردية عامة تحتضن شعوبه المتنوعة عرقيًا ودينيًا وثقافيًا. وهي لا تعني بالسردية مجرّد سرد زمني يشمل كل مناطق العالم العربي، بل رواية تاريخية تقوم بإنتاج تاريخ مترابط مبنيّ على حلقات وصل بين مختلف المناطق من حيث التفاعل والتأثير في الأحداث. 

وبرأيها لا تنفك عملية التأريخ (العربية) للحقبة الحديثة تأخذ من المشرق وعواصمه مركزًا محوريًا، مع ترك المغرب والصحراء وكذلك الجزيرة العربية في مواقع سردية هامشية ضمن الإطار التاريخي الشامل. وبذا فإنها تحيـل الكرة، من حيث تدري، إلى مسؤولية المؤرخ أولًا ودائمًا. فهذا المؤرخ هو من يؤطر عملية تأريخ التاريخ. بالتالي فإن مهمته محفوفة بالمطبّات.
كانت مهمة المؤرخ لفترة طويلة منحصرة في التدوين (الحوليات) إلى أن ظهرت مقاربات تعتبر التأريخ مجالًا علميًا، وحدّد بعضها دور المؤرّخ في السعي إلى كتابة التاريخ "كما كان"، بحسب عبارة ليوبولد فون رانكه الشهيرة.
لكن لتأدية هذا الدور ألحّ صاحب تلك العبارة على المؤرخ أن ينشغل بسؤال "ماذا حدث في حقيقة الأمر؟".
ومن هذا السؤال اشتق مصطلح "الحقيقة التاريخية"، وكان من ادعى أن هذه الحقيقة تكمن بكيفية ما في أجوبة يقدمها المؤرّخ.
ومعروف أنه وضعت تحت تصرّف "علماء" التاريخ أرشيفات قومية وخصوصية. وأدى احتراف علم التاريخ إلى سيطرة المفهوم الوضعي على الكتابة والبحث التاريخيين. وبدأ بعض المؤرخين - بصفتهم أصحاب حرفة أو خبراء - يتحدثون عن التاريخ كما لو أنه علم نزيه وغير منحاز يمكن بمساعدته الكشف عن الحقيقة الوحيدة والموضوعية. ورفضوا الاستعانة بأي نظريات اجتماعية بما في ذلك المُعدّة لتفسير السلوك البشريّ. 
وبرأي أحد نقاد المفهوم الوضعي، وهو المؤرخ أ. هـ. كار، فإن تعامل هؤلاء المؤرخين مع الوثائق كان شبه ديني. ولم يناقش كار الدقة التي قد تنطوي عليها مثل هذا الأعمال، لكنه أضاف أن الذي يكيل المديح لمؤرخ بسبب الدقة في عمله مثله مثل ذلك الذي يكيل المديح لمهندس معماري بسبب استعماله خشبًا مصنّعًا بجودة عالية أو إسمنتًا مخلوطًا بحسب المواصفات المرعية في تشييد البناء.

وتستدعي إحالة غزال السالفة إلى مسؤولية المؤرخ، الإشارة إلى أنه قبل أقل من ثلاث سنوات صدرت عن "المركز العربي الإسلامي للدراسات الغربية" في القاهرة طبعة ثانية من كتاب مارك بلوخ "دفاعاً عن التاريخ أو مهنة المؤرخ"، ترجمة وتقديم أحمد الشيخ. وجاء هذا الكتاب في حينه (النصف الأول من القرن العشرين الفائت) كي يعيد الاعتبار إلى جوهر عمل المؤرخ.
وأشار الشيخ في سياق التقديم إلى أن مقاربة بلوخ كانت تشدّد على أن عمل المؤرخ لا يمكن أن يبدأ فقط مع جمع الوثائق، وإنما هناك تساؤلات تسبق هذه المرحلة؛ كما أن المؤرخ لا ينبغي عليه أن ينغلق داخل التاريخ، وإنما عليه أن ينفتح من دون خجل على العلوم الإنسانية الأخرى، وأن يسير فى اتجاه تكاملية مناهج العلوم الإنسانية، وأن يهتم بما هو جماعي أكثر ممّا هو فردي، وأن عليه أن يمنح الأولوية للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي على التاريخ السياسي، أو على تاريخ الزعماء والمعارف العسكرية، وأن يهتم بالإيقاع البطيء للتاريخ على حساب الإيقاع الحدثي والسريع، وأن يتخلى عن التاريخ القصصي السردي لكي يتوجه نحو التاريخ الذي يطرح قضايا وأسئلة كبرى من خلال وقائع التاريخ التي يسردها.

كما لفت إلى أن بلوخ حارب هوس إصدار الأحكام، ورأى أن دور الباحث التاريخي ليس وضع حصيلة تقييمية لأحداث الماضي، بحيث يضع الأشرار في جانب والأخيار في جانب آخر، وإنّما تفسير أحداث الماضي كما وقعت، والعمل داخل الأرشيفات لاستخراج الحقائق منها.

غير أن أهم وجه من وجوه الدفاع عن التاريخ لدى بلوخ يعود - في نظر الشيخ - إلى الأبعاد الأخلاقية التي تضمّنها هذا الكتاب، التي تبدأ منذ الوهلة الأولى التي ربط فيها بين التاريخ والحياة، فالمؤرخ بالنسبة إليه ليس متعهّد الحوادث الماضية، وإنما هو من يضطلع بشؤون الحياة والحاضر، قبل أن يكون منقبًا في شؤون الماضي البعيد، وهو يرى أن مهمة التاريخ والمؤرخ هي البحث عن الحقيقة، لكن الحقيقة عنده لا تنفصل عن الحق، وعن الحياة. كما يرى أن التاريخ يخدم الحقيقة، لكن الحقيقة لا تظهر إلا في المكان الذي يسود فيه الحق، والعدل أيضًا.
واشتمل التقديم على إشارة إلى مفارقة تعكس حالتنا الثقافية العربية، سنتطرّق إليها في سياق آخر.

المساهمون