وهران، عاصمة الضجر*

وهران، عاصمة الضجر*

22 سبتمبر 2015
مدينة وهران الجزائرية
+ الخط -
على غرار الشاعر التركي يحيى كمال بياتلي (1884- 1958) حين يقول إن الشيء الوحيد الذي يحبّه في أنقرة، هو العودة إلى إسطنبول، كان في إمكان ألبير كامو أن يقول - في نظري - إن الشيء الوحيد الذي يحبّه في وهران، هو العودة إلى مدينة الجزائر، حيث كانت تقيم والدته وأصدقاؤه، وتقام عُروض الفرقة المسرحية التي يشتغل معها، مُمثّلًا ومُخرجاً، في آن واحد.
كانت مدينة الجزائر، مدينة الصيف الصافي والمشمس، التي قضى فيها طفولته الفقيرة، لكن السعيدة، ومراهقته. بيد أن السفر من وهران، في القطار، يستغرق ليلة كاملة أو يوما كاملًا. ورغم أنه كان يزور مدينة الجزائر كثيرًا، إلا أنه كان يُحس كما لو أنه سجينٌ في وهران. وكان، ليتجاوز ضجره، يجوب الشوارع، صاعدًا ونازلًا أدراج الشوارع الضيقة. ويشاهد مباريات الملاكمة أو كرة القدم بصحبة الكسالى. ويتسكّع بين المقاهي التي تظلّ مفتوحة حتى الصباح. ويرتاد دور السينما لمشاهدة الأفلام نفسها لمرّات ومرّات. لم يكن له عملٌ قارّ، إذ كان، من حين لآخَر، يعطي دروسًا خصوصية. وشيئًا فشيئًا، بدأت تتضح معالم رواية "الطاعون"، في ذهنه. ورغم مرور بعض الوقت على إصداره رواية "الغريب"، إلا أنه لم يكن بمقدور أصدقائه الوهرانيين ولا عائلة زوجته التي كان يحسّ بالأمان في أحضانها، أن يتفهموا الأسد المختفي في قلبه. كان أحيانًا يتجوّل على أرصفة الميناء، ويقطع الأزقة الضيّقة للحي الإسباني أو يصعد جبل سانتا كروز. ومن هناك، يتأمّل المشهد المتوسطي الذي يحتل حيزًا أساسيًا في عمله. وينظر، في لا مبالاة، إلى مراكب الصيادين وهي توغل في الأعالي، كما لو أنها، وهي تهرُبُ صوب ضفاف أخرى، لا تُشكّل جزءً من عالَمِه. أو يركب دراجة هوائية متجهًا نحو شواطئ مهجورة خارج المدينة ليسبح وحيدًا، وهو عارٍ تمامًا.
كان كامو، الذي يزدري المقاربة الاستشراقية، مخطئًا في اختزال تاريخ الجزائر بحقبة الاحتلال الفرنسي، ليس فقط، حين يصف وهران، لكن أيضًا حين يتحدّث عن مدينة الجزائر وقسنطينة في كتابه: "الدليل الصغير من أجل مدن بلا ماضي".

اقرأ أيضاً: الأسس الأسطوريّة لصنعاء وعدن

لا يضع كامو، في أي كتاب له - حين يتحدّث بحماسة وبأسلوب يزاوج بين الفلسفي والساخر- الجمال الطبيعي والمَواقع والمدن القديمة والمدن الحديثة والشعب الجزائري في المقام الأوّل. العربُ غائبون في أعمال هذا المنتمي إلى "الأقدام السوداء". ولا يُؤلّفون حتى مجرَّد ديكور. وسكّان وهران، الذين نصادفهم، سواء في رواية Minotaure أو رواية الطاعون، ليسوا إلا من الأقدام - السوداء، أو بمعنى آخر المُستوطِنين. أو في أي حال من البِيض الأوروبيين: "فرنسيو الجزائر عِرْقٌ غير شرعي، متكوّن من اختلاطات غير متوقعة؛ إسبان وألزاسيون وطليان ومالطيون ويهود ويونانيون، التقوا في الجزائر. هذه التخصيبات التهجينية، أعطت، كما هو الأمر في أميركا، نتائج سعيدة".
علينا ألا ننسى أن هؤلاء السكان كانوا يتشكّلون من أناس لا يختلطون بالعرب الذين يعيشون بين ظهرانيهم. كانت لهم أحياؤهم ومدارسهم وأماكن ترفيه خاصّة بهم، وكانوا يحرّمون على الآخَرين لغتهم وثقافتهم. ويعدّون أنفسَهُم المواطنين الجزائريين الوحيدين. وقد أظهروا روحًا قومية شرسة أثناء حرب الاستقلال. لا يتعلّق كلام كامو حين يصف مدينة وهران: "فيها قليل من الأشجار وأجمل حجارة العالَم"، وحين يمتدح جمال نساء مدينة الجزائر، اللاتي يملأن أرصفة المقاهي ويتبضعن في الشوارع، بثياب خفيفة ذات ألوان مثيرة، بالتأكيد، بنزوع قومي. ولكن يساورنا انطباعٌ بأننا أمام كاتب لا يمثّل له "الآخَر" و"المختلف"، أيَّ فائدة. خصوصًا، اليوم، بعد معاناة وتمزّقات كثيرة، وبعد انتصار تحقَّقَ في الدمّ والعنف، وبعد أن أُرْغِمَ أصحاب "الأقدام السوداء" على مغادرة هذا البلد.
في رواية "مينوتور"، تنبثق وهران أمامنا في بيئتها الطبيعية وشواطئها وأجرافها المنحدرة وجبلها سانتا كروز. نتعرف إلى هؤلاء الشباب المتسكّعين، هؤلاء الذين يموتون من الضجر، الذين، رغم مطالبتهم، كشخصية خليستاكوف للكاتب الروسي غوغول: "يجب إنجاز أشياء كبيرة، هنا"، يُضيّعون حياتهم من دون عمل شيء. تصبح وهران في رواية الطاعون، شيئًا فشيئًا، استعارة، عن الناس الذين، بعد أن وضعوا مدينتهم في حِجْر صحيّ وأغلقوا أبوابهم، يقاومون الموت والكوارث. تصبح المدينة مسرحًا لمأساة، ويرتبط مصير سكانها بقوّة تتجاوزهم. غير سعداء بإدارة ظهورهم للبحر، يغلقون أبوابهم في وجه العالَم وينغلقون على أنفسهم.
مقتطف من كتاب "الكتّاب ومدنهم".
ترجمة م. م.

المساهمون