لبنان ومصر... حكاية سينمائية عريقة

لبنان ومصر... حكاية سينمائية عريقة

09 اغسطس 2016
المطربة اسمهان(Getty)
+ الخط -
في 28 يونيو/ حزيران 2016، تُرَحِّل أجهزة الأمن المصرية، الإعلامية اللبنانية ليليان داود، قسراً، بسبب مواقفها الانتقادية لعمل أجهزة الأمن المصرية بحقّ القضاء والإعلام والصحافة. يثير الترحيل العنفيّ والفوريّ حراكاً متنوّعاً، يتمثّل أحد جوانبه باستعادة الحكاية اللبنانية المصرية المشتركة، التي تعود أصولها إلى الربع الأخير من القرن الـ 19. وهي حكاية تقول بدور فاعل ومؤثّر، إيجابياً، في الحركة الثقافية والفنية والصحافية والاقتصادية والاجتماعية، للبنانيين كثيرين، يولدون في القاهرة أو الإسكندرية، أو يأتون إلى مصر للعمل الإبداعي المتنوّع فيها. 

لن يكون سهلاً على أي مؤرّخ أو باحث أو كاتب، يرغب في تناول العلاقة بين مصر ولبنان، أن يتغاضى عن أحد جوانبها الأهمّ، المتمثّل بالحضور الصحافي والأدبي والثقافي والفني، الذي يصنعه لبنانيون عديدون في "وادي النيل"، بدءاً من الربع الأخير من القرن الـ 19. فالحضور المتنوّع هذا يُشكّل أحد أبرز فصول "نهضة" مصر، إنْ كان اللبنانيون مهاجرين إليها، أو مولودين فيها، أو من أصول لبنانية قديمة.

ولن يكون منصفاً تجاوز ما يُحقّقه مصريون عديدون في لبنان، أيضاً، خصوصاً إثر قرارات التأميم الناصرية، بدءاً من نهاية ستينيات القرن المنصرم، والتضييق على الحريات العامة والإبداعية، والاشتغال الاستخباراتيّ ـ الأمنيّ في الداخل المصري، المتفلّت من كلّ قيد، منذ نهاية خمسينيات القرن نفسه، ما يؤدّي ليس فقط إلى "خروج" الأجانب المولودين في الإسكندرية والقاهرة، والمقيمين فيهما منذ سنين مديدة، واللبنانيين والسوريين، المعروفين حينها بـ "الشوام"، بل مصريين عديدين أيضاً، منهم مخرجون وممثلون وفنانون، يأتون إلى لبنان، بحثاً عن "حرية" تعبير وعمل، أو طلباً لـ "ملجأ"، يُقدّمه البلد لهم، حينها.

أكثر من ملجأ

ذلك أن الحضور المصري في لبنان، الذي يتّخذ من الفن والإبداع ملاذاً وإنتاجاً وحراكاً متنوّعاً، دون غيرهما من المجالات الأخرى تحديداً، يُساهم في تفعيل الحركة الثقافية ـ الفنية، في ستينيات القرن المنصرم، ويجعل بيروت أكثر من "ملجأ"، يسعى إليه "مطرودون" من بلادهم العربية، فتُصبح العاصمة اللبنانية، بفضل الحضور المصري، المعطوف على لجوء مئات الفلسطينيين والعرب، مساحة إنتاجية في شتّى أصناف الفنون والآداب، من دون تناسي زيارات عابرة لأجانب، يُصوّرون أفلاماً لهم، أو مشاهد منها، في بيروت ومدن لبنانية أخرى.

التبادل الثقافي ـ الفني، بين مصر ولبنان، أساسيّ في بلورة مسار إبداعي متنوّع الأشكال والأنماط والمواضيع، من دون التوقّف عند القراءة النقدية المتكاملة له، إذْ إن قراءة كهذه، في استعادة شيء من جمال العلاقة بين البلدين والشعبين، ستكون نافرة، لأنها ليست إيجابية، غالباً. فالنتاجات السينمائية المصنوعة بفضل التعاون بين لبنانيين ومصريين، تؤدّي إلى ما يُعرف لاحقاً باسم الـ "كومبينة"، أي تلك التركيبة المتسرّعة لتحقيق أفلامٍ يغلب عليها الطابع الاستهلاكي ـ التجاري البحت. "كومبينة" تنشأ في ستينيات القرن الفائت، وتصطدم، مطلع سبعينياته، بـ "السينما البديلة"، التي يصنعها لبنانيون يريدون "تحرير" الفيلم اللبناني من الخضوع لتبعية الاستهلاكي ـ التجاري تلك، كي يجعلوه أقرب إلى الحسّ المحلي الإنساني، وإنْ يغلب عليه، أحياناً، خطاب نضالي من أجل قضايا الفرد والجماعة، خصوصاً في ظل "فلسطين" وأسئلتها وهواجسها، وتحقيق أعمال كثيرة "تغرق" في لغة "القضية" الجماعية، غالباً.

رغم هذا كلّه، فإن التبادل الحاصل بين البلدين مهمّ للبنان، إذ يُثري الحياة المجتمعية والاقتصادية اللبنانية، ويشارك في تفعيل الحراك الفني والسينمائيّ. لكن الحضور اللبناني في مصر، بشقّيه المهاجر والمولود/ المقيم هناك، يبقى الأغزر والأكبر والأهمّ، إذ تفتح مصر، في القاهرة والإسكندرية، قلبها الواسع أمام مهاجرين ومغتربين ومنفيين إليها، بعضهم يأتي محمّلاً بمشاريع أعمال ورغبة في تحقيقها "هناك"، وبعضهم يولد فيها، فيعثر في الفنون والآداب على دربٍ له في الحياة.

الإقامة المصرية في لبنان منطلقةٌ من سبب أساسي مباشر، يتمثّل بقرارات التأميم. ذلك أن أموالاً ورساميل مصرية مختلفة يتمّ تهريبها إلى بيروت، تماماً كما يحصل مع الأموال والرساميل الفلسطينية، المتدفّقة إلى العاصمة اللبنانية في الفترة نفسها تقريباً، ما يفيد لبنان مالياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، من دون أن تتحوّل الإفادة هذه إلى ركائز متينة، تحصّن البلد من كل انهيار محتمل. اللبنانيون في بلد النيل والأهرامات، يتعاملون مع مصر على أساس أنها بلدهم، وليست فندقاً لسيّاحٍ عابرين. فهم إما يولدون فيها، أو يُقيمون فيها، أو يأتون إليها لإدراكهم أنها "المعمودية" الفنية والثقافية لهم، لانطلاقتهم في مهنهم، مزوّدين بحرفية وشهرة وحضور مؤثّر في العالم العربي.

نجومية

صحيحٌ أن الطرب والغناء الأصيل لن يُتوَّج فعلياً، إنْ لم يكتسب معرفةً وصقلاً إبداعيين في حلب السورية. لكن المرحلة الممتدة بين الربع الأخير من القرن الـ 19، ومطلع ستينيات القرن الـ 20، معقودةٌ على القاهرة، إذ يأتي إليها من يصبح لاحقاً مطرباً أو موسيقياً أو مبدعاً في أي مجال ثقافي ـ فني، بفضل تمرينه العمليّ والاحترافيّ فيها، وبفضل تتويج نجوميةٍ يصنعها في بلده، لكنها تحتاج إلى مصر كي تكتسب شرعيتها ومصداقيتها.

وهذا لا يحول دون التنبّه إلى سببٍ آخر لتدفّق المهاجرين "الشوام" إلى مصر، يكمن في واقع الحال الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الأمني، إذْ يُؤدّي التسلّط "العثمانيّ" إلى هروب أفواج عديدة منهم إلى برّ الأمان (مصر تحديداً)، وتأتي الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) والمجاعة والفقر، فيزداد عددهم، خصوصاً مع إخضاع الشباب للخدمة العسكرية الإجبارية، في صفوف الجيش العثمانيّ.

في مقابل اكتساب الشرعية والمصداقية الإبداعيتين، يُقدّم هؤلاء إلى القاهرة والإسكندرية معاً بعضاً أساسياً من حياتهم واجتهاداتهم وتأثيراتهم ونتاجاتهم، فيُصبح اللقاء المتبادل بين الطرفين جوهر الإبداع المتكامل. ففي كتابه "ظلال الأرز في وادي النيل، لبنانيون في مصر" ("دار الفارابي"، بيروت، الطبعة الأولى، 2009)، يسرد الكاتب والسيناريست المسرحيّ والسينمائيّ فارس يواكيم، المصري الولادة اللبناني الأصل، فصولاً مختصرة من حيوات لبنانيين عديدين يُقيمون في مصر، ويُساهمون "بشكل فاعل في الحياة الثقافية والإعلامية فيها". وإذْ تتوزّع فصول الكتاب على اختصاصات ومجالات عديدة، هي "الصحافة"، و"أهل القلم"، و"أقلام نسائية"، و"أهل النضال"، و"دنيا الأنغام"، فإن للمسرح والسينما "أضواء" مستقلّة في فصل، يتضمّن سير شخصيات مؤثّرة في المجالين الفنيين هذين، أمثال جورج أبيض (1880 ـ 1959) وعزيز عيد (1884 ـ 1942) المسرحيين، بالإضافة إلى عبد السلام النابلسي (1899 ـ 1968)، وآسيا داغر (1901 ـ 1986)، وماري كويني (1913 ـ 2003)، ويوسف معلوف (1914 ـ 1972)، ويوسف شاهين (1926 ـ 2008)، وعايدة هلال (1925 ـ 1987)، وعلوية جميل (1910 ـ 1994).

يُشير يواكيم، في المقدّمة، إلى أن هناك شخصيات غير معروف عنها أنها لبنانية، أو من أصول لبنانية. لكنه، في كتابه، لن يذكر أسماء لبنانيين مُشاركين في صناعة أنواعٍ من السينما، وتحديداً السينما الغنائية، كصباح (1927 ـ 2014) ونور الهدى (1924 ـ 1998) مثلاً. فالأولى تُمثّل في نحو 80 فيلماً لبنانياً ومصرياً، بالإضافة إلى أغنياتها اللبنانية المصرية أيضاً، التي يبلغ عددها نحو 3000 أغنية. والثانية تمثّل في 23 فيلماً، و3 مسلسلات مصرية. لن يذكر أيضاً اسم عمر الشريف مثلاً، لسببٍ متعلّق بالتباس أصوله. فالخلاف كبيرٌ بين من يرى أنه دمشقي الأصل، ومن يرى أنه لبناني، هو المولود في الإسكندرية، في 10 أبريل/ نيسان 1932، والمتوفى في القاهرة في 10 يوليو/ تموز 2015.

"شوام"

الدمشقيون، أو السوريون عامة، لهم حضورٌ في القاهرة أيضاً. التاريخ شاهدٌ يوثّق هذا، ويُحصّنه من النسيان. فريد الأطرش (1910 ـ 1974) وأسمهان (1912 ـ 1944) أبرز مثلين، وأهمّهما. هناك فلسطينيون يذهبون إلى الإسكندرية، فيولد أبناءٌ لهم هناك، أو يذهبون مع أولادهم الصغار. الأخوان بدر (1907 ـ 1947) وإبراهيم لاما (1904 ـ 1953) يأتيان إلى الإسكندرية ومعهما أجهزة سينمائية، ويبدآن العمل في تحقيق أفلام في النصف الثاني من عشرينيات القرن الـ 20، أي في مرحلة التأسيس الفعلي لصناعة سينمائية مصرية متكاملة. سوريون آخرون يأتون لاحقاً، كرفيق الصبّان (مواليد دمشق، 1931)، الناقد والسيناريست، الذي يُصبح مصرياً بامتياز، في المستويات كلّها (إقامة وسلوكاً ولهجة وانخراطاً فاعلاً ومؤثّراً في الحياة الفنية والصحافية والثقافية)، إذْ يأتي القاهرة مطلع السبعينيات، ويُقيم فيها حتى وفاته، في 17 أغسطس/ آب 2013. في حين أن محمد ملص (1945)، مثلاً، يحاول تأسيس حضور سينمائي له في العاصمة المصرية، مطلع الألفية الثالثة، لكنه لن ينجح في هذا، لأسباب عديدة، لن يكون سهلاً تحديدها، مع أن كثيرين يقولون إن "شدّة الانغلاق المصري"، حينها، على كل ما هو "خارجيّ"، بعد سقوط أوهام العروبة والأخوّة، منذ سنين مديدة، سببٌ أساسي.

كثيرون يعرفون الدور الذي تؤدّيه آسيا داغر، وابنة أختها ماري كويني، في الإنتاج والتمثيل السينمائيين. المتحدّرتان من البلدة اللبنانية تنورين، تأتيان إلى القاهرة عام 1923، وتنخرطان في عالم السينما، وتُحقّقان أعمالاً لا تزال حاضرة في التاريخ الإبداعي العربي. عام 1927، تؤسّس داغر شركة "لوتس فيلم" للإنتاج، وتمثّل، في بداياتها، في أفلام يوقّعها التركي وداد عرفي (1900 ـ 1969) والفلسطيني إبراهيم لاما. ويُذكر لها أنها مكتشفة مخرجين جدد، كهنري بركات (1914 ـ 1997) وعزّ الدين ذو الفقار (1919 ـ 1963) وكمال الشيخ (1919 ـ 2004) وحلمي رفلة (1909 ـ 1978) وحسن الإمام (1919 ـ 1988)، وغيرهم، ممن يُصبح لاحقاً من صانعي "العصر الذهبي" للسينما المصرية. كما أنها أول من يُقدّم فاتن حمامة (1931 ـ 2015) في التمثيل، إذْ بفضلها تؤدّي الشابّة (16 عاماً حينها) دوراً في فيلم "الهانم" (1946) لبركات، إلى جانبها وجانب زكي رستم.

الحكاية اللبنانية في مصر كبيرة وغنية بمعطيات، يصعب اختزالها هنا. لكن الأمثلة السابقة مجرّد استعادة تطمح إلى عدم نسيان التاريخ المشترك والفاعل والمؤثّر، إيجابياً، على المستوى الإبداعي، بين مصر ولبنان، في زمن الانغلاق السلطوي المتجدّد في بلد النيل، الذي يُساهم في عزلة عربية جديدة له.

المساهمون