انقلاب في حياته

انقلاب في حياته

09 اغسطس 2016
لوحة للفنان جيل مايير (Getty)
+ الخط -
مجرد تخيّل

رجلٌ يُحب النمل حبّاً جمًّا، أسوةً بالكائنات والأشياء الصغيرة، الضئيلة التي تستهويه.
ذات يوم شعر بألم في أذنه اليسرى.
بمراجعة الطبيب المختص، تبيّن أن هناك نملة تسعى في باطن أذنه. وقد استخرجها الطبيب وعرضها أمامه داخل منديل ورقي، لكنه أشاح بناظريه كي لا يراها.
لم يتوقف الرجل عن محبته للنمل، وقد اعترف لنفسه أنه كان يمشي بغير احتراس قبل سنوات، وداس نملةً في طريقه، وها هي قد انبعثت تسعى في أذنه.
وبما أنه لم يقتل نملةً سواها، فلن يصادف مرة أخرى أيّة نملةٍ في إحدى أذنيه، وهذا ما حدث.
الرجل في واقع الحال لم يسحق أيّة نملة طيلة حياته المديدة.
لقد تخيّل مجرد تخيّل أنه داس ذات مرة على نملة. لكن شعوره بما تخيّله كان شديداً وقوياً، ويضاهي وقُعُه في نفسه وقْعَ الحقيقة.



حافّة السرير

حينما انتقل من النوم على الفراش الممدود على أرضية الغرفة، إلى الرقاد على السرير، فقد شعر بانقلاب في حياته. ليس هناك في الحارة ولا في المدرسة، بين أترابه ممن يماثلونه أو يجاورونه في سن الحادية عشرة، من ينام مثله على سرير. لقد شعر بالزهو والتميز وهو يرقد على سريره الحديدي مرتفعاً عن أرض غرفة النوم بنحو نصف متر أو يزيد قليلاً. وقد تمنّى لأصدقائه أن تسعفهم الظروف ويناموا مثله على سرير، ويعاينوا التجربة المدهشة بأنفسهم ويلاحظوا الفرق: كيف يصبح النائم أقرب الى السقف والنافذة، وكيف لا يشعر بصلابة الأرض، ولا بسخونتها أو برودتها مثلاً.
أمرٌ واحد ظل يؤرق الصبي، فهو كثير التقلب في رقاده، ويجد نفسه مرة على حافة الطرف الأيمن، ومرة على أقصى الطرف الأيسر من السرير، فمن يضمن له أن لا يقع عنه؟
لم يبُح لأحد من أصدقائه بتوجسه هذا، واحتفظ بهذا الهاجس لنفسه، مخافة الأقاويل.
وها قد مضت أربعون سنة وأكثر على استخدامه للسرير، نام خلالها على أسرّة عديدة في بيوت تنّقل بينها، وفي فنادق دول عدّة، لم يقع خلالها ولا مرة واحدة عن سريره، رغم أن عادته في التقلّب قبل النوم لم تفارقه، وهو واثق أن "معجزة" ما حالت دون سقوطه، لكنه ليس متأكداً ما إذا كانت هذه "المعجزة" ستتواصل أم لا.


ليس لأنه ..

الكلب البنّي اللطيف الوافر الوبر الذي تغطي أذناه الطويلتان جانبي رأسه الصغير، يدرُج سريعاً على الرصيف العريض النظيف، وخلفه صاحبته السيدة الشابة الأنيقة بساقيها الطويلتين داخل بنطال أسود، تُمسك بالحبل الطويل المرتخي الذي ينتهي بحلقة مطاطية حول عنقه، وتحاول ضبط سرعة مشيها على إيقاع سرعة مشيه.
السيدة صاحبة أنَفَة، ذات اعتداد، منتصبة القامة، تُصوّب وجهتها نحو الأمام، ولا تتلفت يُمنة أو يُسرة.
لكنها كأي شخص، لا تخلو من نقطة ضعف صغيرة أو كبيرة.
الانسياق وراء الكلب يبهجها. ولا بد أن مشاعر الحيوان الصغير حيالها، إيجابية جداً. لكن ليس معلوماً الى أين يهرول هذا، وما الهدف الذي يتجه حثيثاً اليه.
الشابة بنظارة صيفية سوداء وذراعين طويلتين عاريتين، تنساق وراءه ليس لأنه كلبٌ بالضرورة، أو لأنها تمقت الرجال وتقاطعهم، بل لأنها وجدت ضالّتها أخيراً، وجدت شيئا واحداً (أو وجدت من) يستحق وحده أن يقودها، وأن تستسلم لقيادته لها.وها هي تفعل.
وبالطبع فإن أحداً لا يعترض طريقها.


فساد

لم يرَ الطفل في نومه تمساحاً يقول له: ارسمني وإلا التهمتك.
لم يذهب الطفل إلى المدرسة مذعوراً مما رأى.
لم يتعرض الطفل إلى الهزء من أترابه الأطفال لمّا حاول مصارحتهم بالذي رآه في الأحلام.
لم يرسم الطفل تمساحاً في حصة الرسم لأن المعلمة تحب الفراشات والنجوم لا التماسيح.
لم يرسم فراشة ضخمة ذات لون داكن على هيئة تمساح تزحف تحت سطح النهر.
لم يقل للمعلمة إنك لا تعرفين السبب.
لم يبُح لها بأنه رأى التمساح كما يراها، وسمعه كما يسمعها.
لم تزعل منه المعلمة.
لم يزعل هو من المعلمة لزعلها عليه.
لم تؤرقه المعلمة مثلما لم يؤرّقه الحيوان المائي.
لم يكابد اليقظة مثلما كابد النوم.
لم ..



ولم....

أحدهم في البيت وهو الشقيق ابن التاسعة الذي يكبر الطفل كاتب القصة بسنتين، قرأ القصة من وراء ظهر شقيقه المريض واستبدّ به الحنق، وأضاف بدون أن يرمش له جفن .. أضاف كلمة "لم" الى بداية السطور، مع تغيير صيغة السرد من الإيجاب إلى النفي. والأنكى من ذلك أنه شطب السطور الثلاثة الأخيرة بحجّة أن القصة خيالية ولم تحدث، وذلك بعدما فاتَحَه جدّه المهندس قبل أيام بأن حكايات جدّته وقصصها: الحلوة منها والمُخيفة لم تحدث أبداً، وهي جميعها خيال بخيال (كاد الجدّ يقول: كذب بكذب، لكنه امتنع عن قول ذلك في اللحظة الأخيرة)، وعليه.. على الفتى ألا يُصدّق تلك القصص والحكايات إذا كان عازماً على أن يصبح رجلاً ناجحاً في المستقبل. وقد زعل الصبي الشقي بعدئذ من جدّته لأنها "خدعته"، أما هنا وكما ترون فقد أفسد الفتى ابن التاسعة (الفتى المتعجل بلوغ الرجولة)، أفسد القصة التي كتبها شقيقه البريء الحالم المريض ابن السابعة، وهذا عقد العزم أن يُصلح يوماً ما أفسده أخوه الكبير، معترفاً في الوقت ذاته مع نفسه أن القصة لم تحدث، وأنه اختلقها اختلاقاً!.



دلالات

المساهمون