ماركيز... الكاتب الجامع

ماركيز... الكاتب الجامع

26 يوليو 2016
استحقاق أدبي كبير لغابو(Getty)
+ الخط -
يستحق الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، لقب الكاتب الجامع، وذلك بسبب سيرته الحياتية الثرية، وقدرته على الذهاب نحو فنون الكتابة: رواية، سينما، صحافة، مقالة سياسية، من دون أن يشعر قارئ منتجه بالفرق الكبير أو الضعف هنا أو هناك.
بكل تأكيد فإن تلك القدرة المسنودة إلى موهبة، أعلنت عن نفسها مبكراً، لم يكن لها أن تصبح ما هي عليه، لولا أن خضعت لـ "التعشيق" والترشيق، حتى صارت متسمة بتلك الروعة التي يثمنها قراء ماركيز لأدبه الكبير والفذ.
الصحافة، وبالتحديد، تقنية الريبورتاج والتحقيق والتقارير، هو ما منح ماركيز هذا الامتياز الكبير بين كتّاب كبار وعمالقة جيل الرواية الأمريكو ـ لاتينية، من أمثال فونتيس وأوكتافيو باث وخوان رولفو وخوليو كورتزار، وغيرهم ممن شكلوا تلك الاختراقات الكبرى في السرد الروائي العالمي، متجاوزين نمطية وكلاسيكية التقنية الروائية الأوروبية، ومنحازين عن الأدب الأميركي، الذي كان مشغولا بتحقيق الذات والمغامرة وثنائيات الأبيض والأسود، الجنوب الأميركي والشمال، الأمة والعرق. لا يمكن قراءة أدب ماركيز، بمعزل عن هذه الخصوصيات ودون استحضار هذه المرجعيات الثقافية والاجتماعية، وبلا فتح الأعين على الصراع السياسي الذي كان سائدا في تلك الفترة، فهناك وجوه شديدة التأثير صاحبها ماركيز واقتسم معها قناعات سياسية ظل عليها لوقت طويل. ويبرز الثنائي إرنستو تشي غيفارا وفيديل كاسترو، كأحد الرموز السياسية الأشد تأثيرا في زمنها، والتي كان يجتمع حولها محيط كبير من مثقفي أميركا اللاتينية، من البيرو ومن كولومبيا ومن السلفادور والمكسيك وغيرها، وبشكل متزامن مع كل هذا، كانت الأرض تميد تحت أقدام الجميع، بسبب الحروب الأهلية الهوجاء وفساد الأنظمة السياسية والتمزق الاجتماعي وسيادة منطق العصابات على منطق الدولة.
الأثر الروائي والأدبي لغابرييل غارسيا ماركيز يكاد يكون محفوظاً عن ظهر قلب من طرف المهتمين بأدبه وقرائه في مختلف اللغات التي ترجم إليها. لكن ربما تكون مذكراته التي تحدث فيها عن أدبه وحياته أو عن عالمه الإبداعي من أروع ما كتب، لأنها تكشف الوجوه المتعددة لهذا الكاتب المحترف والدقيق، الذي كان يتمسك بطقوس خاصة في الكتابة وبرنامج دقيق لا يحيد عنه، كما كان في الوقت نفسه، على قدر انعزاله وصرفه الساعات الطوال في محترف الكتابة، صاحب حضور اجتماعي لافت للنظر وقادر على خرق ذلك الكليشيه المرتبط بالكاتب التقليدي المنعزل عن الأضواء والهارب من المجتمع. وقد أفاد ماركيز كثيراً من عمله كصحافي تحقيقات، وهي المهنة التي كانت تلزمه بقدر كبير من التتبع والدقة والموضوعية، شبيهة
بتحقيقات الشرطة، لكنه في كل ذلك، كان يمنحها طابعه الخاص، والأسلوب المميز له، مما جعل النقاد، لاحقا، يطلقون على شكله الكتابي «الواقعية السحرية» وهو توصيف، ظل لا يلاقي في نفسه هوى، إذ كان يعتبر أن مرد ذلك، لا يعود إليه هو نفسه فقط، بل إلى التركيبة الثقافية لبلدان أميركا اللاتينية، ذات المرجعية الإسبانوفية، ممزوجة بخليط من الثقافات المحلية الغنية. يمكن هنا تحديدا، الإشارة، إلى أن ماركيز، حين كان يسأل من طرف النقاد والصحافيين، عن "السحري" في أعماله، كان يرد الوصفة السحرية، إلى المحلية، وكان يردد دوما أن المحلية هي منطلق العالمية وصانعة الكاتب الكبير وليس العكس، بمعنى أن تعرف الجذور جيدا وتنطلق منها، وهذا ما تحقق له فعلا من خلال متونه الروائية.
قدر لماركيز أن يبدأ حياته الأدبية من العاصمة الكولومبية بوغوتا، في زمن الديكتاتوريات المقيتة، كصحافي ريبورتاجات وتحقيقات في صحيفة صغيرة، سرعان ما سيشد إليه الانتباه بفضل التحقيقات المدوية التي كانت تفزع وتخيف رموز النظام العسكري في بلده.
ففي تلك السنوات الصعبة من ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي تحول ماركيز وغيره من رفاقه في كولومبيا وبلدان أميركا اللاتينية التي كانت ترزح تحت نير الديكتاتوريات، إلى ظاهرة ثقافية وسياسية وإعلامية مؤثرة، واستطاع هؤلاء المثقفون أن يكونوا في الصف الأول لشعوبهم، معبرين عن الحاجة القصوى إلى الحرية والديمقراطية. في كل أعماله، كان هذا الكاتب المدوخ، يتمتع بتلك العين اليقظة، وظل أسلوب التقرير الصحافي يرافقه في متونه الروائية، رشيقا وممتعا ومدهشا ومؤثرا فكريا وأخلاقيا. ويقدر ما حكى عن الشعب وعن الحب وعن طاقة العشق، حكى أيضاً عن الحرية وفن الحياة، وجعل مركب الخير والشر يبحران معا في نفس اللجة، لكنه في كل ذلك لم ينس الديكتاتور، لقد قام بتشريحه من الداخل بمبضع الجراح الماهر، كان بفضل مراسه السياسي، يعرف نفسية الديكتاتور المنهزمة، لذلك دفع قراءه في جميع أنحاء العالم، إلى عدم الانخداع بالنياشين الثقيلة ولا بالأوسمة البراقة ولا بالرتب العسكرية التي يمنحها الديكتاتور لنفسه في لحظات الجنون الأعمى. في كل أعماله، جسد ماركيز هذا المنحى الراديكالي في الكتابة وفي الإيمان بالحرية والكرامة. ففي إحدى أقصر رواياته «يوميات بحار غريق» استطاع أن يجعل من مجرد غرق سفينة تجارية لنقل البضائع تابعة للحكومة الكولومبية في عهد الديكتاتور، بابا لكشف الفساد المستشري في أوصال النظام الحاكم القائم على التهريب، حيث تتحول الدولة من حامية للاقتصاد الوطني إلى معول لهدمه. الحكاية، سيرويها البحار الوحيد الناجي الذي كان على ظهر السفينة، والذي حولته الحكومة الفاسدة في محاولة لإرشائه إلى "بطل قومي". لكنه في لحظة صحوة ضمير، سيحكي للصحافي الشاب الذي كان يتعقب القصة، الرواية الأصلية. لاحقا، سيلتقي الكاتب الفعلي كما في الرواية، بالبحار، كانت قد نزلت عليه لعنات الحكومة بعد اعترافاته تلك، ليتحول من بطل قومي إلى مجرد متسول في طرقات بوغوتا.
نصوص ماركيز التي تعتبر اليوم، بعد رحيل الكاتب، من عيون الأدب العالمي، وسيذكره التاريخ ككاتب أصيل وصاحب موقف حياتي وإنساني، منتسب للإنسان ومدافع عن القيم الكبرى، وحث الشعوب إلى التحرر، والأفراد إلى تقرير مصيرهم والإنسانية إلى النضال من أجل ترسيخ القيم الكبرى، تلك القيم التي تسمح بالعيش في عالم أفضل بلا حروب ولا كراهية مقيتة تمزقه وتسحقه.

المساهمون