كمال بلاّطة يبني للعالم جغرافيا من نور

كمال بلاّطة يبني للعالم جغرافيا من نور

26 يوليو 2016
من الأعمال الأخيرة لكمال بلاطة(العربي الجديد)
+ الخط -

هو من الفنانين الأكثر استعصاء على الإمساك والتأويل. فلوحاته "الحروفية" كانت تمتلك من الصرامة الآسرة ما يجعلك إما تقبلها في حيرتك أمامها، أو تواربها في سطوتها عليك. فمع أن كمال بلاطة بدأ بلوحات تشخيصية تعبيرية في منشئه بالقدس، إلا أن مسيره التكويني بروما والولايات المتحدة، جعله يفتتن بالحرف العربي ويحوله إلى علامة استهواه فيه المربع، فتربَّع عليه في تأويلات بصرية متناسلة للحرف الكوفي. هكذا عرفناه في الثمانينات، حين شاهدت أول سيريغرافية له معلقة في مكتب المرحوم عبد الكبير الخطيبي. وهكذا تعرفت عليه في مقامه بالمغرب في 1993-94، حين كنت ألاقيه غالبا في المعارض بالرباط أو حول تجربة صديقه التشكيلي الراحل محمد شبعة.
قد يستغرب البعض من فلسطيني يحمل في مسقط رأسه بلده وقضيته، أن يتجه إلى التجريد، في الوقت الذي كان فيه أغلب الفنانين الفلسطينيين المُجايلين له يصورون قضيتهم بالشخصيات والرموز المعبرة عن حرارتها ومفارقاتها. بيد أن كمال بلاطة، الذي يتقن الرسم إتقانا، فضل أن يميز منذ البداية بين الممارسة التشكيلية والممارسة الغرافية. فقد أنجز لهذا الغرض أكثر من مائتي ملصق. أما في منحاه التشكيلي فقد كانت تنويعاته على الحرف أكبر من أن تكون حروفية لأنها جردت الحرف من حرفيته لتغوص به في التخطيط، وفي التشكيل الهندسي. ظلت أعمال الفنان عبارة عن تأملات شبه صوفية تستبطن العالم في قلب المعمار الهندسي للوحة. وإن كان المتصوفة يفضلون الدائرة لتناسقها الأملس الذي يجعل العالم عبارة عن دورة لانهائية، فإن بلاّطة يدمج هذه الدائرة الخفية في قلب تربيعاته، كما ليعبر عن حدة الرؤية للعالم وعن زواياها الجارحة.
هذه الصرامة القاسية آتية من بناء اللوحة وفقا لتوافقات وتراكبات وتداخلات تتناسج فيها الخطوط والأشكال تبعا لحس موسيقي عميق. فمن الحرف إلى البناء المعماري يبلور بلاّطة نسيجا معماريا architexture تتحلل فيه الألوان وتمنحه روحا جديدة. فهوى الفنان بالمعمار الإسلامي يتجاوز الزخرفية ليبسط جذوره في "عقلية" التناسجات التي انبنى عليها المعمار الإسلامي. غير أن هذا التجذر نفسه يستحيل إلى جماليات مغايرة تنهض على تأويل وتركيب جديدين، ينتجان معنى مغايرا للأصل ومتعة بصرية باطنية تنسلخ عن المعنى المفترض. يقول بلاطة بهذا الصدد، معللا هذه الصرامة القاسية: "في عملي حساب تام لكل تفصيلة في العمل الفني- على طريقة الأيقونوغرافي… لأني أعتبر التصوير"الرسم" عِلْماً حيث نرسم حرفاً أو نضع لوناً على مساحة بيضاء".
يستقي بلاطة هذا التعامل الجمالي المنهجي من تكوينه الأولي في فلسطين، ثم في ما بعد من ثقافته وتكوينه التشكيليين. وهو وإن كان من شبابه مفتونا ببول كلي إلا أن صرامته تحيل بالأكثر على تنظيرات كاندنسكي. إن هذا التوجه الذي لحظناه أيضا لدى فنانين عرب آخرين كمحمد المليحي ومحمد شبعة وبشكل أقل لدى شفيق عبود، ظل يعبر عن بحث راديكالي عن
هوية بصرية عربية مواربة في نظرتها للواقع. وحين يطرح على كمال بلاطة علاقته بفلسطين باعتبارها علاقة إشكالية وعلاقة هوية نراه يجيب: "الوطن تحوّل إلى متابعة فكرية وعاطفية، وأنا محاط بأناس أغراب: في إيطاليا أتكلم الإيطالية، في أميركا أتكلم الإنكليزية، في فرنسا أتكلم الفرنسية، في ألمانيا حالياً أتكلم الألمانية، هكذا كما تراني أحمل وطني في لوحاتي... عندما كنت بعيداً عن الوطن، تسنى لي أن أنظر عمودياً في نفسي. وكلما ابتعدت أغور في أعماق القضايا الجمالية التي جاءت من التراث العربي الإسلامي، فهي تحتوي على مادة عظيمة للإبداع".
يبني بلاطة عمله التشكيلي على الفرادة. فهو لم يكن قط "حروفياً" حتى وهو يستعمل الحرف العربي، بل يدمجه في منظور جمالي وعاطفي أشمل. وهذه التجربة قادته لأن يسير أبعد في تأمليته الجمالية، كي يمنح للحسي نعومة الفكر وخصوبته. فالذاكرة التي تنطبع في جسده هي التي حملته على هوى الترحال لأن يقص أجنحة الحنين فيها، كي يتبنى لغات العالم، أو بالأحرى كي يحول القضية إلى شجرة شخصية قابلة لأن تنبت في حضن الفن العالمي. ففي تجربة بلقيس التي بلورها من سنتين، نراه يرتاد الأسطورة بالكثير من الشفافية كي يقرأها لا بوصفها حكاية وإنما باعتبارها نبعا لألوان الأرض. بيد أن ثمة دوما حكاية تنسجها سمفونية التفاعلات الهندسية. هكذا صارت الخطوط، صارت تتوارى كي تتحول اللوحة إلى ستارات ترسم متاهة ذهنية للتفكير التأملي لمعمار يدعونا بشكل تساؤلي إلى أن نجد وجهتنا فيه. وأخال أن بلاطة وهو يبني جغرافياته تلك بهذه التجريدية الصارمة يدعونا إلى أن نمنحها من محسوسنا. فالعالم بتحولاته حين يسكن اللوحة ينصهر فيها حتى ليكاد يفقد فيها عذريته السائلة.
تذكرني أعمال بلاطة الأخيرة التي عرضها بلندن في العام الماضي بقصائد هولدرلين في صدوحها الأسطوري؛ حيث الإنسان يتحوّل إلى صوت والنبر إلى نشيد. وأنشودة الفنان هنا تتغنى بإيقاعية لا مجال فيها للذات من حيث هي معاناة حسية بقدر ما هي صعود لأعالي الفكر في عز المعاناة. فهذا الفلسطيني لا يتشبه بقضيته كي لا يَفقدها في خضم محسوسيتها القاهرة. إنه يفتح للفلسطيني طريقا آخر ليتسامى بمعاناته وجراحه ويحولها إلى قضية وجودية. كما يذكرني بقصائد روني شار التي تحول العناصر إلى كتابة لا تنصاع للمرئي إلا لتجعل منه صرحا يبلور رؤية فلسفية للكون. هذا التسامي المزدوج هو ما يجعل بلاطة فنان النور بامتياز وذلك الساحر الذي يخلق عالمه بالنور فقط. النور مادة اللوحة، والجمال الخالص نسْغها والتشاكلات سبيلها للحلم.
ثمة فعلا الكثير من الحلم والمأساوية في تلك اللوحات، وشتات حكاية تسعى لأن تتخلص من وقائعها. فخلف ستارات التأمل الجمالي والصمت الهادر، تغدو جراح الهوية والوجود أشبه بالخيوط الدقيقة التي تتسلل لعيوننا من خلال ثنيات الأشكال الصارمة. وفي التراكبات نجدنا نتصفَّح الحكاية المحجوزة، ومعها الذاكرة التي تشتغل على الفراغ. وفي فراغ المعنى يبلور كمال بلاطة تضاريس صحرائه الخاصة. ويبني مدينته من سراب النور، ويدعونا لمحراب لا يتبدى فيه سوى نور الآلهة...

دلالات

المساهمون