عندما نقول البرتغال...

عندما نقول البرتغال...

26 يوليو 2016
تمثال بيسوا في ليل لشبونة أمام مقهى برازيليا(Getty)
+ الخط -

عندما نقول البرتغال، كقرّاء عرب لا نمتلك نعمة معرفة لغة شعبه الأصلية، ففي المعتاد نقصد على الصعيد الأدبي أساسًا شاعرها العظيم فرناندو بيسوا بدايـةً، والروائي المنوبل جوزي ساراماغو ثانيًا.
وعليه، فإن الحوار مع الكاتب والباحث البرتغالي جْوَاوْ بينْهَارَانْدا من شأنه أن يوسّع مداركنا حول الصورة الأكثر غنًى وتنوّعًا وتعدّدًا للمشهد الأدبي والفني والثقافي العام في هذا البلد.

وتظل لبيسوا مكانة مخصوصة، كما ينوّه ضيف الحوار، مشيرًا على وجه التحديد إلى أنه كان يمتلك لغة كونيّة وأنه حين تناول المشاكل المعاصرة للعالَم الحديث وتشظّي الكائن البشري، تحدّث عنها بطريقة عبقريّة، وهو ما جعل منه عبقريّ الأدب.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 حلّت الذكرى الثمانون لرحيل بيسوا (1888- 1935)، وهي مناسبة تتيح لنا وإن بتأخير معيّن إمكان أن نقرأه من جديد، عبر استعادة هواجسه ولا سيّمـا بشأن مكونات قيمة النصّ الأدبي، وعلاقة هذا النصّ بأسئلة الواقع.

ما تركه لنا بيسوا من تراث كان ثريًّا بالخصوبة الفكرية، وبقراءة ما يعوق التعبير عن حرية الإنسان وإنسانيته.

وكي لا يكون كلامنا فقط في ما هو عام، سأورد بعضًا من أفكاره المنثورة في مؤلفه "كتاب اللاطمأنينة". وقد أنجز ترجمته العربية الشاعر المغربي المهدي إخريف الذي أمضى أعوامًا من مسيرته للتعريف بأرصدة هذا الشاعر.

يرى بيسوا أن الأحلام مشاع للجميع، وما يجعلنا متمايزين هو القدرة على تحقيقها أو تحققها فينا.

وعن الأمل كتب يقول: بفقداننا الأمل لم تعد حياتنا نحن هذه التي نحياها. ومع افتقارنا لأية فكرة عن المستقبل أصبحنا فاقدين لأية فكرة عن الحاضر. لأن الحاضر بالنسبة إلى رجل الفعل ليس سوى مدخل للمستقبل.

كان "كتاب اللاطمأنينة" عبارة عن يوميات من المقاطع والشذرات، شرع بيسوا في كتابتها حوالي عام 1914 واستمر فيها حتى قبيل وفاته بأسابيع قليلة، كما يخبرنا إخريف، ولم تظهر الطبعة الكاملة منه إلا عام 1982.

وبرأيي يشكل مقطع "حديث النثر" بمثابة "نبوءة شاعر" لما آلت إليه حالة الأدب في الوقت الحالي.

مما يقوله بيسوا في هذا المقطع: أفضّل النثر على الشعر... أعتبر الشعر شيئًا وسيطًا، خطوة من الموسيقى باتجاه النثر، مثل الموسيقى، محكوم بقوانين إيقاعية محددة، وحتى لو لم تكن من نمط القوانين الصارمة للشعر المنظوم، فهي قائمة، مع ذلك، كدفاعات، كإكراهات كأجهزة أوتوماتيكية للضغط والعقاب، وفي النثر نحن نتحدث أحرارًا، بإمكاننا أن نضمن إيقاعات شعرية، وأن نوجد خارجها، مع ذلك إن تسرب إيقاع شعري معين بصفة عرضية إلى النثر لا يعوق النثر؛ لكن تسرب إيقاع نثري عرضًا إلى الشعر يفسد الشعر... الفن كله متضمن في النثر... إنني على يقين من أنه، في عالم متحضر تمامًا، لن يوجد فن آخر غير النثر.

وإذا ما بقينا في سيرة بيسوا، لا بُد من أن نشير إلى أن مواطنه ساراماغو كتب رواية بعنوان "سنة موت ريكاردو ريّس"، وفيها يزور الشاعر الميت فرناندو بيسوا إحدى شخصياته المخترعة، ريكاردو ريّس، الذي يقدّمه الروائيّ في الكتاب كشخص حقيقي وعلى قيد الحياة، ويقول له إن "الجدار الذي يفصل الأحياء في ما بينهم ليس أقل سماكة من الجدار الذي يفصل الأحياء عن الأموات".

وعندما سئل ساراماغو خلال أول مقابلة له بالعربية (أجرتها جمانة حداد- النهار، 30/5/2004)، هل كان ذلك الكتاب هو طريقته في اختراق الجدار بينه وبين بيسوا، قال: لطالما سكنني بيسوا. ويحلو لي أن أفكّر أني أنا أيضًا ربما سكنته، فمعه اضمحلّت الحدود بين الواقع والوهم، وكان على حق في ذلك. الأموات "الحقيقيون" لا يمكن أن يموتوا إذا ظللنا نفكّر بهم. فذاكرتنا متصلة بهم، وأعمالهم بقيت لدينا، مثل كل ما فعلوه وتركوه وراءهم. فإذا توقفنا عن الهجس بفكرة أنهم ماتوا، سوف نستطيع أن نهزم الكثير من العوائق التي نبنيها بين الأحياء والأموات، وسنتمكن من العيش معهم من خلال الذاكرة. ولست أعني فقط ذكريات الماضي، أي كل ما كان قيد الوجود يومًا ورحل، بل أيضا ذكريات المستقبل، أي الأمور التي نقوم بها أو لا نقوم بها وتترك أثرًا لا يمحى في غدنا. هكذا كان بيسوا في رأيي: يعرف أن ليس ثمة خط فاصل بين الأمس والغد، بين ما نخترعه وما نلمسه.

دلالات

المساهمون