بيسوا... حارس لشبونة

بيسوا... حارس لشبونة

26 يوليو 2016
تمثال بيسوا في وسط لشبونة(Getty)
+ الخط -
مضى الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا في شوارع لشبونة يحاور أسماءه، هو الذي لم تعرفه القبيلة باسم واحد. كان متنكراً في الأسماء كلها مثل هارب من العدالة أو شأن مطلوب للجندية.
في كتابه "اللاطمأنينة" نعثر على هذا التشظي الإنساني الكبير، لقد كان يريد أن يتحول دون شك إلى سوبرمان. في شعره غير قليل من النتشويّة المرّة، وكأنه كان مقبلاً على تهييء نفسه للانتحار، لكنه خذل الجميع، ومضى في اتجاه نهب ملذات الحياة، في حانات لشبونة، وأحياناً بين مقابرها، أليست الحياة بين الأموات أكبر درس يمكن أن يتلقاه الأحياء وهم يهرعون نحو المجهول بعقول حافية وأرواح مشرنقة، كأن سيلاً رماها من علٍ، كما قال الشاعر الجاهلي الأمير امرؤ القيس.
ظل بيسوا يعيش في لشبونة، ملازماً لها، بل ومخلصاً لأحياء وأماكن بعينها في ذلك الزمن، فهو حين كان مراهقاً، كان قد هلّ القرن العشرون، بكل ما يحمله من حروب وآلام، ومن رغبة البشرية في إحداث تلك القفزة السحرية إلى الأمام.

ليست الحرب جديدة على بلده البرتغال، ولا الانقلابات العسكرية، فهو من ناحية أساسية وريث تلك المغامرة البحرية التي خاضها الإسبان والبرتغاليون معاً، كما يجري في دمائه ذاك اللهب المتحمس نحو المستعمرات.. إفريقيا كانت الوجهة، وعلى المحيط الأطلسي، هناك في الجهة المقابلة من "الأطلسي" يقبع الساحل المغربي، حيث خرج الإمبراطور البرتغالي مهزوماً رغم مدافع البارود التي سلّطها على الأهالي.
من ناحية جوهرية، يمكن اعتبار بيسوا، ابن الإرث الاستعماري، فحتى عندما أرادت بلده البرتغال أن تدير ظهرها إلى ماضيها الأسود في المستعمرات البعيدة، لم يكن هذا الشاعر الذي أحيط بالكثير من الأسطرة، قادراً على الحسم مع مستقبله الشعري وانتمائه السياسي والاجتماعي. لقد بقي أسيراً لوعيه الشقي "البورجوازي" دون أن ينتج حركة مناصرة للبشر في تحررهم إلى الأمام.
ومن هنا يمكن فهم، بعض ملامح شخصيته، ولماذا بقي هكذا ضائعاً مثل سفينة بدون ربان في ليلة عاصفة في عمق المحيط.
من الناحية الشعرية، نتفهم عبقريته كواحد من أهم الشعراء في القرن العشرين، فحياته المرّة والصعبة، والتي تميزت بخاصية فقدان الأب والأخ في سنّ مبكرة، وزواج الأم وترمّلها مرة ثانية، لا يمكن أن تمرّ دون أن يحدث تلك الجراح العميقة في الروح.
لا يجب أن ننسى أن فرناندو بيسوا ابن العسكري رفيع الرتبة، عاش حياة رغدة في بداية مشواره، قضى جزءاً منها في جنوب إفريقيا، ثم عاد إلى لشبونة رفقة أمه الأرملة ليستقر للعيش حتى موته. وبين هذا وذاك، حياة أدبية صاخبة، وانفتاح مطلق على التجارب العالمية آنذاك، بما فيها الحركة السوريالية، وانخراط في مجال النشر، عبر إصدار مجلة أدبية، وإتقان للغات البرتغالية والإنكليزية والفرنسية.
وبكل تأكيد، إنه لم يكن مجرّد سكير عربيد وكفى!

المساهمون